الضّعف الكائن في نحو لغتنا العربيّة،والدّور التّكنولوجيّ المعالج

 

 

 

📘عنوان البحث:الضّعف الكائن في نحو لغتنا العربيّة، والدّور التّكنولوجيّ المعالج

✍المؤلف:أ. بديعة صبحي كنعان

📖 المجلة:مجلة الضاد الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية

📚 العدد:7

📆 تاريخ النشر:حزيران 2025

📄 الصفحات:85-103

🏛 دار النشر:دار البيان العربي

 

ملخّص الدّراسة

لا شكّ في أنّ النّحو من أجلّ الدّراسات اللغويّة العربيّة، إذ من دونه يقع اللحن وينتشر، وبدونه تضيع المعاني، لا، بل قد تتبدّل وتتغيّر بخلاف المقصود الصّحيح فيها.

ولكنّ النّحو العربيّ يعاني مشكلة ربّما لا يعانيها أيّ نحو لغويّ في أيّة لغة أخرى، ذلك أنّ النّحويين العرب أنفسهم، خطّأ بعضهم بعضًا، وأثبت بعضهم أو ادّعى خطأ بعضهم الآخر، أو في أحسن الأحوال ضعّف وجهة نظره، فوقع الضّعف عندهم، وبات في نحونا العربيّ إشكاليّات غريبة من التّناقضات أحيانًا.

لكنّ هذا الضّعف النّحويّ العربيّ لم يتوقّف عند هذا الحدّ فحسب، بل إنّه مع تقادم السّنين واختلاط العرب بالأقوام الأخرى، وقع اللحن وشاع، وبدأ الضّعف يظهر في تراجع السّليقة اللغويّة العربيّة الّتي لم يكن فيها خلاف في ما سبق، وتزايد الضّعف واختلفت أشكاله وتنوّعت.

نرى أنّ عصرنا هذا، بات عصر التّكنولوجيا وسيطرة المصطلحات الأجنبيّة، وتوافر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وكلّ ذلك أنتج جيلًا من أبناء اللغة العربيّة يتلفّظون بكلماتها خطأ، ولا يعرفون مواضع الضّمّة من الفتحة من الكسرة، ولا يبالون بذلك، ويستمرّ الضّعف في كلّ المراحل التّعليميّة، ما يطرح سؤالًا كبيرًا عن السّبب الحقيقيّ وراء هذه المشكلة، كما يطرح إشكاليّة أكبر عن الوسيلة الصّحيحة لحلّها، وهل للتّكنولوجيا دور ما في ذلك، أو أنّ دورها يقتصر على الموادّ العلميّة فحسب؟

في هذا البحث اتّبعنا المنهج الوصفيّ التّحليليّ؛ لتوصيف ظاهرة الضّعف النّحويّ وتحليل أسبابها ومدركاتها، كذلك المنهج الاستقرائيّ في محاولة لاستقراء الأسباب والنّتائج، وإلى أيّ مدًى يمكننا توظيف التّكنولوجيا في معالجة هذه الإشكاليّة المستمرّة.

وقد توصّلنا إلى بعض النّتائج، ومنها: الضّعف النّحويّ أمر لا يمكن إنكاره، النّحاة أنفسهم اختلفوا، ولم يكتفوا بالاختلاف، بل ضعّف بعضهم بعضًا، أمّا التّكنولوجيا الحديثة فلا شكّ في أنّها تُسهم في التّخفيف من ظاهرة الضّعف النّحويّ، لكنّها ليست الحلّ الجذريّ الكامل على الإطلاق.

الكلمات_المفتاحية: الضّعف النّحويّ – الخلاف النّحويّ – خلافات في نحو القرآن -التّكنولوجيا الحديثة -التّوظيف التّكنولوجيّ.

Abstract

There is no doubt that grammar is one of the most prestigious fields in Arabic linguistic studies. Without it, grammatical errors occur and spread, meanings are lost, and may even be distorted or altered from their intended purpose.

However, Arabic grammar faces a problem that perhaps no other language’s grammar does: Arabic grammarians themselves often criticized one another. Some claimed others were wrong, or at best, weakened their opinions. As a result, weaknesses emerged among them, and Arabic grammar came to suffer from strange contradictions and inconsistencies.

This grammatical weakness did not stop there. With the passage of time and the intermingling of Arabs with other peoples, grammatical errors became widespread. The natural linguistic intuition that once prevailed began to erode. Weakness in Arabic grammar grew more prevalent, taking on various forms and becoming increasingly complex.

Today, we live in an age dominated by technology, foreign terminology, and widespread social media. These developments have produced a generation of Arabic speakers who mispronounce their own language, fail to distinguish between basic grammatical cases (like nominative, accusative, and genitive), and do not even care. The weakness persists through all educational stages, raising serious questions about the true causes of the problem, and more importantly, about how it can be resolved. Can technology play a role in addressing this issue, or is its function limited to scientific subjects only?

This study adopts the descriptive-analytical approach to describe and analyze the phenomenon of grammatical weakness and its underlying causes. It also employs the inductive method in an attempt to trace reasons and consequences, and to assess the extent to which technology can be used to address this ongoing issue.

The study reached several conclusions, including: grammatical weakness in Arabic is undeniable; disagreements among grammarians themselves have contributed to this weakness. While modern technology can certainly help reduce the prevalence of grammatical errors, it is by no means a complete or definitive solution.

Keywords: grammatical weakness – grammatical disagreement – Quranic grammar controversies – modern technology – technological application.

مقدّمة

لا شكّ في أنّ لغتنا هي أعظم لغة؛ كونها لغة القرآن الكريم، لغة سليقة العرب، لغة التّنوّع في بعض المفردات ما بين القبائل المختلفة، وقد راعى القرآن ذلك، وحفظ حقّهم في هذه التميّزات اللغويّة، إذ أُنزل على سبعة أحرف، أو عشرة، ما دفع العلماء إلى العناية بالنّحو الإعرابيّ في كلماته ومفرداته، وقد أنتج ذلك خلافات كبيرة ما بين النّحاة بدلًا من اتّحادهم معًا، ما قد يوقع الباحثين، والطّلّاب، في نوع من الحيرة إزاء خلافات النّحاة.

أهمّيّة الدّراسة

ترتكز أهمّيّة الدّراسة في عدد من الأمور المتلازمة، نوجزها ونجمعها في ما يأتي من الأمور:

  • عظمة اللغة العربيّة؛ لأنّها اللغة الخالدة ما دام هناك عربيّ ومسلم في الأرض.
  • وجود الضّعف الإعرابيّ في جيلنا هذا وتفشّيه هو مسألة تستدعي المتابعة والعلاج، بالأخصّ بوجود الكثير من الوسائل المساعدة.
  • الالتفات إلى أهمّيّة الوسائل التّكنولوجيّة في تعليم الطّلّاب أصول النّحو العربيّ الصّحيح بقدر الإمكان.

أسباب اختيار الدّراسة

تنطلق هذه الدّراسة من مسبّبات وعلل تستدعي القيام به، وربّما يكون من أبرزها ما يأتي:

  • انطلاقًا من أهمّيّة الدراسةذاتها، وقوع الضّعف لم يشمل الموادّ اللغويّة التّعليميّة فحسب، بل انعكس في تلاوة كتاب الله، وكثير منّا يقع في اللحن، بما قد يتسبّب في تغيير المعاني.
  • الاهتمام بدراسة الضّعف النّحويّ عند بعض النّحاة في تأويلهم بعض حركات الكلمات الواردة في القرآن الكريم.
  • وجوب توظيف التّكنولوجيا، بقدر الإمكان؛ لحلّ مشاكل الضّعف النّحويّ، بقدر الإمكان.

إشكاليّات الدّراسة

تمثّل إشكاليّات الدّراسة أساسًا لبنائه، ومرتكزًا لقيامه، وينطلق بحثنا هذا المتعلّق بالضّعف النّحويّ، والتّحدّيات الّتي تواجهه في وجود التّكنولوجيا، في الأسئلة الآتية:

  • كيف يمكن للنّحويين أن يعترضوا على قرّاء كتاب الله، وهم المجازون في ذلك؟
  • إلى أيّ مدى يمكن التّوظيف التّكنولوجيّ للتّطوّرات التّكنولوجيّة في تطوير الدّرس النّحويّ العربيّ؟
  • هل يمكن تأسيس المعجم النّحويّ العربيّ المبسّط تكنولوجيًّا؛ مثلما يوجد المعجم اللغويّ العربيّ؟
  • هل تفيد التّكنولوجيا النّاتجة عن الغرب، في تطوير الدّراسات اللغويّة العربيّة، أو أنّ دورها يقتصر فقط على الموادّ العلميّة؟

فرضيّات الدّراسة

انطلاقًا من إشكاليّات الدّراسة، نبني الفرضيّات، ونسعى إلى دراستها عمليًّا وعلميًّا في مفردات البحث، ونوجزها في ما يأتي:

  • منطقيًّا، لا يبدو من المعقول للنّحويين أن يعترضوا على قرّاء كتاب الله، وتلاواتهم من التّلاوات المتواترة المعهودة شرعًا.
  • يمكن التّوظيف التّكنولوجيّ للتّطوّرات التّكنولوجيّة في تطوير الدّرس النّحويّ العربيّ، لكن بشكل محدود.
  • من الممكن تأسيس المعجم النّحويّ العربيّ المبسّط تكنولوجيًّا، مثلما يوجد المعجم اللغويّ العربيّ، لكن لن يفيد كثيرًا في معالجة الضّعف النّحويّ.
  • لا يقتصر دور التّكنولوجيا الغربيّة على تطوير الموادّ العلميّة فحسب، لكنّ دورها في تطوير الموادّ اللغويّة العربيّة ليس بالدّور الكبير المؤثّر.

مناهج الدّراسة:

تستدعي دراستنا هذه الجمع بين أكثر من منهج علميّ، لبنائه في الشّكل الصّحيح بقدر المستطاع، ومناهجنا البحثيّة هي الآتية:

أوّلًا: المنهج الوصفيّ التّحليليّ: بغية توصيف ظاهرة الضّعف النّحويّ، وتحليل أسبابها ومدركاتها.

ثانيًا: المنهج الاستقرائيّ: بغية استقراء الأسباب والنّتائج الحاليّة، وإلى أيّ مدًى يمكننا توظيف التّكنولوجيا في المعالجة الآنيّة والدّائمة.

الدّراسة

بما أنّ دراستنا عن الضّعف النّحويّ، في قراءة المفردات وفهم سياقها ضمن الكلام، وبالتّالي إعرابها إعرابًا صحيحًا، لا بدّ أن نبدأ أوّلًا بالتّعاريف اللغويّة والإجرائيّة.

الضّعف لغة:  الضّعف بضمّ الضّاد وفتحها، كلتاهما لغة صحيحة وفق تلاوة حفص عن عاصم، ولغة: الضّعف يكون في العقل، كما يكون في الرّأي، كما يكون في الجسد، فالضّعف “ضدّ القوّة في العقل والرّأي، وبالضّمّ في الجسم، وبالكسر بمعنى المثل” (الكفوي، 1998، ص 575) ولا يُشترط اجتماعه فيها كلّها معًا، ويأتي الضّعف بمعنًى آخر، من مصدر التّضعيف: “أضعفْتُ الشّيء إضعافًا، وضاعفتُه مضاعفةً، وضعّفْتُه تضعيفًا، إذا زاد على أصله، فجعله مثلين أو أكثر” (الجوهري، 1987، ص 2).

الضّعف إجرائيًّا:  وفق رأي الباحثة، لا يختلف التّعريف الإجرائيّ للضّعف عن التّعريف اللغويّ كثيرًا، لكن بأخذ المفردة وحدها، من دون استخدامها في مصادر، نستبعد التّضعيف في هذا المجال، ونقتصر بالضّعف على الرّأي، لكن في المسائل النّحويّة الإعرابيّة على وجه التّحديد، من دون أيّ أمر آخر.

الإعراب لغة:  في المفهوم اللغويّ: يعرّفه الفراهيديّ بقوله: “أعرَبَ الرّجلُ، بمعنى أفصحَ في القول والكلام” (الفراهيدي، لا.ت، ص 128)، أمّا الجوهريّ، فيربط هذا المصطلح بمن صار عربيًّا، كلامه خالٍ من اللحن، ربّما ينطلق في ذلك من قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد (سورة فصّلت، الآية 44)، في وجود التّناقض بين اتّفاق الأعجميّة والعربيّة، كما يقول الفراهيديّ في تعريفه: “وأعربَ بحجّتِهِ، أي أفصَح بها، ولم يتّقِ أحدًا” (الجوهري، 1978، ص 79).

ولا تتوقّف تعريفات الإعراب عند هذين التّعريفين، فالكثير من النّحاة قدّموا وجهة نظرهم في التّعريف اللغويّ لمصطلح النّحو، من ذلك ما ذهب إليه ابن هشام الأنصاريّ، بقوله: “الإعرابُ أثرٌ ظاهرٌ، أو مُقدّرٌ، يجلبُهُ العاملُ في آخرِ الاسمِ المتمكّنِ والفعلِ المضارعِ” (الأنباري، 2008، ص 42).

الإعراب إجرائيًّا:  وفق رأي الباحثة، أيًّا كانت مذاهب النّحويين في التّعريفات اللغويّة لمصطلح الإعراب، فممّا لا شكّ فيه، ولا خلاف، أنّ الإعراب هو التّمكّن من أداء اللغة العربيّة نطقًا صحيحًا، وفهمًا سليمًا لمواقع كلماتها في السّياق، وإعرابها إعرابًا صحيحًا.

الضّعف النّحويّ عند العرب عمومًا:

من البديهيّ حين نذكر الفعل قبل الفاعل، أنّنا نذكر الفعل في صيغة المفرد، أيًّا كانت حالة الفاعل، إفرادًا، تثنيةً، جمعًا مذكّرًا، جمعًا مؤنّثًا، فنحن نقول، على سبيل المثال: جاء رجل، جاءَت امرأة، جاء رجلان، جاءت امرأتان، جاء رجال، جاءت نساء.

كما أنّه من الصّواب القول: جاء نساء، استنادًا إلى قاعدة المؤنّث المعنويّ، ومنه ما ورد في كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِين (سورة يوسف، الآية 30)، وكذلك ما ورد في كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم (سورة الممتحنة، الآية 12)، لم نقرأ: {وقالتْ نسوة}، بتاء التّأنيث، كما لم نقرأ {إذا جاءتْك المؤمنات) بتاء التأنيث، لكنْ، ليس هذا مجال الخلاف والتّضعيف هنا، بل ما يُعرف باسم لغة “أكلوني البراغيث” (السّيوطيّ، 1980، ص 256)، إذ نلحظ أنّ الفعل لحق بالفاعل، وورد في حالة الجمع، بل جمع المذكّر السّالم، مع أنّ الفاعل بعده ليس عاقلًا.

لكنّ سيبويه بنفسه، في كتابه النّحويّ الأشهر، يُقرّ بهذه اللغة النّحويّة، في قوله: “واعلم أنّ من العرب من يقول: ضربوني قومك، وضرباني أخواك… وكأنّهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامة كما جعلوا للمؤنّث، وهي قليلة” (سيبويه، 1988، ص 40)، أمّا قول سيبويه، أو قول من استشهد بهم: “ضربوني قومك”؛ فلأنّ كلمة قوم بحدّ ذاتها جمع، وهي تشير إلى جمع الرّجال تحديدًا، نستدلّ على ذلك من قول الله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون (سورة الحجرات، الآية 11)، ومن النّحاة من يقول بوجود هذه اللغة في نصوص الحديث النّبويّ الشّريف، كما في قول الرّسول ﷺ : يتعاقبُون فيكم ملائكة” (ابن مالك، 1990، ص 116).

بيد أنّ هذا الرّأي قابل للنّقاش، فالأحاديث النّبويّة ربّما رُوي بعضها بالمعنى لا باللفظ الحرفيّ؛ لذا رفض كثير من النّحاة الأخذ بالحديث النّبويّ الشّريف كمصدر من مصادر النّحو العربيّ قديمًا، بل إنّ النّحاة الجديد، فيهم من رفض الاستناد إلى الحديث النّبويّ كمصدر من المصادر النّحويّة المعتمدة؛ ذلك أنّه لم يُدوّن في وقت تكلّم الرّسول ﷺ به، بل بعد مدّة طويلة، اختلط فيها العرب بالعجم، و”الكثير من هؤلاء العجم، ممّن لم يُتقنوا اللغة العربيّة كلّ الإتقان، فتكلّموا بالحديث، وهم به يلحنُون، من غير دراية منهم بذلك” (علي، 2007، ص 137)، وذلك استنادًا منهم إلى أنّ كثيرًا من العجم كانوا يروون الحديث النّبويّ الشّريف. هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّ فيهم من أخذ بالحديث النّبويّ شاهدًا دائمًا، ومنهم من حدّد شروطًا للأخذ به كشهد دائم (البغداديّ، 1997، ص 9).

الضّعف النّحويّ في شواهد كتاب الله تعالى:

بالعودة إلى رأي سيبويه، وباستقراء كتاب الله تعالى، نجد في أكثر من موضع فيه، أنّ الفعل ورد في حالة الجمع، والفاعل بعده، من ذلك قول الله تعالى: ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُون (سورة الأنبياء، الآية 3). نستطيع القول إنّ الاسم الموصول (الّذين) مرفوع؛ لإحدى الأوجه الثّلاث الآتية:

أولاها: الرّفع على البدليّة من واو الجماعة في قوله (وأسرّوا)، وثانيها: خبر مبتدأ محذوف، بتقدير: (المُسِرّون)، وثالثها: فاعل للفعل (وأسرّوا)، لكنّ الواو علامة للجمع، لا علامة للفاعل، ما يُخرجها من لغة “أكلوني البراغيث”، بيد أنّ الوجه الثّالث ضعيف، وليس هذا رأيًا اجتهاديًّا منّا، بل إنّ الأنباريّ نفسه، ذهب إلى هذه الوجوه الثّلاثة، ذاكرًا الوجه الثّالث أنّه “ضعيف؛ لأنّها لغة غير فصيحة” (الأنباريّ، 1980، ص 302)، وذلك في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون (سورة المائدة، الآية 71).

وليس الأنباريّ وحده من يذهب إلى هذا الرّأي، فكذلك المرادي، ينتقد النّحاة الّذين خرّجوا هذه المفردة في الآية القرآنيّة، هذا التّخريج النّحويّ الضّعيف: “ولا ينبغي ذلك؛ لأنّ هذه اللغة ضعيفة، فلا يُحمل القرآن إلا على اللغات الفصيحة” (أبو البركات، 1980، ص 302).

وهناك مسألة أخرى، ما بين القرّاء والنّحويين، وقع فيها الخلاف، وهي مسألة المجاورة، أو بمعنى أدقّ جرّ الكلمة جوارًا لما قبلها أو بعدها، كما يقرأ بعضهم: (الحمدِ للهِ) بدلًا من (الحمدُ للهِ)، من باب الجرّ بالمجاورة، وكذلك (لقد كان لكم في رسولِ اللهِ إِسوة حسنة)، بدلًا من (أُسوة)، وهذه الكلمة لا وجود لها في اللغة العربيّة، إلّا في باب الجرّ على الجوار فحسب، من هنا وقع الخلاف بين النّحويين في تضعيف بعضهم، في أيّ شاهد قرآنيّ فيه خلاف للجرّ على الجوار، بل إنّ بعضهم فرّق بين الجرّ والخفض، في استشهادهم بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (سورة المائدة، الآية 6)، بقولهم: “وقال بعض أهل اللغة: هو جرّ على الجوار، فأمّا الخفض على الجوار فلا يكون في كلمات الله” (الزّجّاج، 1988، ص 153).

وفي رأينا، أنّ هذا الرّأي يُهمل الجانب الفقهيّ كثيرًا، الّذي قد يُغيّر في سياق هذه المفردة ضمن المعنى العامّ، ما يُغيّر بالتّالي موقعها الإعرابيّ، بدلًا من إلحاقها بالجرّ على الجوار، أو الخفض على الجوار، وقبولها أو الحكم عليها بالضّعف، فممّا سبق في الآية الكريمة، وما تلا: ﱡﭐ  ﱈ  ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ  ﱏ ﱐ ﱑﱠ فمن المعلوم أنّ المسح بالرّؤوس، أي ببعضها لا كلّها، أمّا الأرجل فتُغسل إلى الكعبين ولا تُمسح، ما قد يعني أنّ كلمة (وأرجُلَكم) معطوفة على (وجوهَكم)، وعلى (أيديَكم)، أي أنّها مفعول به منصوب، بعيدًا عن الجرّ والمجاورة.

نتيجة عامّة

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه ليسَت كلّ الأوجه الإعرابيّة الخلافيّة، في مواطن الضّعف النّحويّ، الّتي يتقدّم بها بعض النّحاة بحقّ بعضهم، ما قد يُحوّل النّحو إلى مشكلة يحتار فيها بعض الأساتذة ويختلفون، فكيف الحال بالطّلّاب في صفوفهم؟ ثمّ إنّنا نلحظ الضّعف النّحويّ قائمًا بقوّة في لغة أبناء جيلنا هذا، ما يستدعي السّؤال عن بعض الأسباب المؤدّية إلى ذلك، وفق وجهة نظر محدّدة، وبعدها ننظر في التّوظيف التّكنولوجيّ، ومدى نفعه من عدمه، في الحدّ من ظاهرة الضّعف النّحويّ.

أسباب عامّة

ممّا نلحظ في أولادنا ومعارفنا وتلاميذنا، تتّضح الأسباب المؤدّية إلى الضّعف النّحويّ في كثير من العوامل والمصادر، من ذلك:

  • قلّة اهتمام أساتذة النّحو العربيّ بالعمل على تطوير أنفسهم، والاكتفاء بعرض المادّة الجافّة على الطّلّاب.
  • تجزئة العلامة بأسلوب غريب، فمثلًا لو كتب الطّالب في إعرابه الفاعل: فاعل مرفوع وعلامة نصبه السّكون المقدّر على الرّاء للثّقل، فإنّه ينال جزءًا من العلامة؛ كونه أدرك أنّ موقع هذه الكلمة من الإعراب “فاعل مرفوع”؛ حتّى في الشّهادات الرّسميّة المتوسّطة، تمّ اعتماد هذا الأسلوب في أكثر من سنة، ما يعوّد الطّالب الاستهتار، وكتابة أيّ شيء يخطر في باله، وإن نال جزءًا من العلامة فكأنّه حقّق إنجازًا ما.
  • تكرار المادّة النّحويّة بأسلوب مستفزّ، فالطّالب يأخذ درس (الفعل الماضي) مثالًا، ستّ صفوف تعليميّة متتالية، من الأساسيّ الرّابع إلى المتوسّط التّاسع، وقسْ على ذلك دروسًا نحويّة أخرى، ثمّ يُفاجأ في صفّ التّاسع بكمّيّة ضخمة من الدّروس النّحويّة لم تُسبق من قبل، وإذ بصفوف المرحلة الثّانويّة، يعدّون الطّالب عليمًا بالنّحو، وما علينا إلّا أن نذكّره به فحسب، ما يزيد في الضّعف النّحويّ أكثر.

ولسنا وحدنا، من يدرك ذلك، في مدارسنا النّحويّة، فالكثير من المفكّرين والباحثين درسوا هذه الظّاهرة في بلادهم العربيّة، من ذلك ما ذهب إليه حسنين بقوله: “وحسبنا أنّنا أخفقْنا في تعويدِ الطّلبة صحّة استخدام النّحو في تعبيرهم، والقراءة الصّحيحة الخالية من اللحن” (حسنين، 1993، ص 202)، وهذا أحد المفكّرين يقول: “إنّ ضعف العناية بتطبيق الطّرائق التّربويّة الحديثة في تعليم اللغة العربيّة وقواعدها، يعدّ من العوامل الأساسيّة في تدنّي مستوى الطّلبة في فهم قواعد اللغة العربيّة وإجادة توظيفها” (جابر، 2009، ص 155)، وكذلك يذهب بعض المفكّرين إلى القول “إنّ إدراك قواعد النّحو، وحسن استعمالها، أصبحت من المشكلات التّعليميّة المعقّدة لدى بعض الطّلبة، فقد اشتدّ نفورهم منها، حتّى عُدّ ضعفهم في النّحو ملموسًا في قراءاتهم، وأحاديثهم وكتاباتهم” (سمك، 1975، ص 644).

وهذا أحد الباحثين يقدّم مقالًا مطوّلًا بعنوان “أسباب ضعف الطلاب في النحو”، مستشهدًا بآراء ستّة من المفكّرين والباحثين من دول عربيّة متعدّدة (طيطي، 2012، موقع إلكترونيّ)، وتقدّم الدّكتورة نصيرة بونوة زيتوني، الأستاذ المساعد في النحو واللسانيات، جامعة حائل، المملكة العربية السعودية، بحثًا علميًّا محكّمًا، بعنوان “أسباب ضعف طلبة اللغة العربية في مادة النحو من وجهة نظر أساتذتها في جامعة حائل”، مرتكزة على ستّين مصدرًا ومرجعًا (زيتوني، 2020)، وباحثة أخرى في جامعة بابل، كلية الدراسات القرآنية، تقدم بحثًا عن “فاعلية استراتيجية التساؤل الذاتي في تحصيل طلاب الصف الأول المتوسط في قواعد اللغة العربية”، لكنّها أشارت إلى عدد كبير من الآراء يلحظ وجود الضّعف النّحويّ (الشلاه، لا.ت. كتاب إلكتروني)، ومن أولئك الباحثين من وصف هذا الضّعف النّحويّ بالضّحالة النّحويّة: “وممّا يؤسف عليه، أنّ أمْيَزَ ما يوصف به الأداء اللغويّ لطلبتنا كثرة الأخطاء النّحويّة الّتي يقعون فيها، وكذلك ضعف قدرتهم على الضّبط السّليم لأواخر الكلمات نطقًا وكتابة، فيشيع لدى المجتهد منهم تسكين الأواخر ليسلم، ويشيع لدى البقيّة منهم العشوائيّة والرّكاكة في النّطق والتّشكيل، الأمر الّذي يُنبئ عن ضحالة فهم القواعد النّحويّة واستيعابها (عصر، 2005، ص 313).

لو أردنا التّوسّع في هذا المجال ما كفانا المجال في بحث علميّ محدود المساحة، إلّا أنّ المغزى الّذي نريده قد بيّنّاه، من أنّ ظاهرة الضّعف النّحويّ منتشرة انتشارًا واسعًا، ما يدفع إلى التّساؤل، بالأخصّ أنّنا في عصر متساوٍ بين القوّة والضّعف، في زيادة التّكنولوجيا وانتشارها، فقد تكون السّبب في مزيد من الانهيار، بالأخصّ لطغيان المصطلحات الأجنبيّة وانتشارها، وكذلك تحوّل الكثير في أبناء العرب إلى لغة الماسنجر (الفرانكو آراب)، ما يُبعدهم أكثر عن لغتهم، ويجعلهم على نفور معها، ثمّ إنّ هذه التّكنولوجيا تفتح مجالًا خصبًا للاستفادة من تقنيّاتها ووسائلها، في سبيل التّطوير والخلاص من الضّعف النّحويّ وأسبابه وظواهره.

التّوظيف التّكنولوجيّ

لم تتوقّف التّكنولوجيا عن النّموّ المطّرد بأسلوب مذهل، وعلى الرّغم من إنتاج كثير منها باللغة الأجنبيّة الدّاعمة للّغة العربيّة، إلّا أنّها قدّمت كثيرًا من الخدمات لطلبة اللغة العربيّة، وإن كانت هذه الخدمات تتفاوت بين القوّة والضّعف، لكن السّؤال كذلك عن جدواها الحقيقيّ، فمن تلك الخدمات في برنامج الوورد: Word الشّهير، خدمة موجودة ضمن الخيارات العامّة: Options، ثمّ: Proofing، من بعدها اختيار ما يراه الطّالب الأنسب له، في خيارات: Auto Correct Options، وهذا التّصحيح التّلقائيّ يدعم الكتب المكتوبة باللغة العربيّة، مثلما يدعم ما تمّت كتابته في برنامج ال Word باللغة الإنكليزيّة تمامًا.

لكنّ هذه التّقنيّة التّكنولوجيّة تعاني مشكلتين، الأولى أنّ التّصحيح التّلقائيّ هذا، يجب تفعيله قبل البدء بالطّباعة، لا بعد الانتهاء منها، والثّانية أنّ هذه الخاصّيّة قد تُخفّف الأخطاء الإملائيّة والنّحويّة، لكنْ لا تلغيها تمامًا، ونستطيع أن نضيف إلى ذلك مشكلة أخرى، لا تقلّ أهمّيّة وخطورة، أنّ هذه الخاصّيّة لا تعالج الضّعف النّحويّ فعليًّا، قد يتمكّن الطّالب من استخدامها في العمل المنزليّ، لكن ضمن القاعة الصّفّيّة، أو في مناقشته في عمله، سيقع في الكثير من الأخطاء النّحويّة الفادحة؛ لأنّ الضّعف النّحويّ متجذّر عنده منذ بدايته في الدّراسة، ومتراكم عبر السّنوات.

لقد اقتصر النّحاة قديمًا على أنّ وظيفة النّحو معرفة حركات أواخر الكلمات، لكنّهم إذ فعلوا ذلك، فبدافع أنّ النّحو كان ما يزال مادّة قويّة في النّفوس، على الرّغم من وجود اللحن، أمّا اليوم فالوضع أكثر صعوبة؛ واستدعى التّراخي التّعليميّ أكثر من اللازم، إذ إنّ نظرة النّحاة الحاليّة إلى النّحو، مثل نظرة القدماء إليه، ووضع الجيلين في مقام واحد، تسبّب في أنّهم “ضيّعوا كثيرًا من أحكام نظم الكلام وأسرار تأليف العبارة” (مصطفى، 1992، ص 3)، ولئن في وقتهم آنذاك لم تكن التّقنيّات التّكنولوجيّة متاحة، فإنّها متاحة في وقتنا، ما قد يوجد نوعًا من التّوازن إذا أحسّنّا استخدامها.

ومن تلك الخدمات التّقنيّة كذلك، وعبر الهواتف، من Google Play، يمكن تثبيت الكثير من التّطبيقات، المتخصّصة في التّشكيل، من ذلك (تشكيل – التشكيل الآلي للنصوص)، وعلى اللابتوب يمكن الاستعانة بعدد من المواقع، مثال: (صحّحلي): https://sahehly.com/،

وكذلك: (مشكّل النصوص العربية): https://www.tahadz.com/mishkal/main،

و(شكللي): https://sahehly.com ،

والمشكلة هي ذاتها، بفرض أنّ هذه التّطبيقات وتلك المواقع، ستقدّم الضّبط الصّحيح بنسبة 100%، لكنّها لن تعالج مشكلة الضّعف النّحويّ على الإطلاق، المتجذّرة والمستمرّة.

أمّا محاولة العلاج الثّانية، فتقتضي التّركيز في المعاني العامّة للكلام وتبيان سياق المفردات فيه، دلالة ووظيفة؛ للإبانة عن مواقعها الإعرابيّة السّليمة، والأمر ليس بهذه السّهولة، لكن في التّراكم التّعليميّ يمكن أن يقدّم نتيجة جيّدة نلمس آثارها عبر السّنين، وننوّه هنا بما ذهب إليه السّامرائيّ من التّحذير من “موت بعض الظّواهر اللغويّة واختفاء بعضها” (السّامرائيّ، 2003، ص 8)، في حال التّركيز فقط في الحركات الإعرابيّة، وإهمال المعنى.

ممّا لا شكّ فيه أنّ “الّطريقة الّتي تمّت بها دراسة النّحو العربيّ لم تكن أحسن الطّرق الممكنة، فلقد خلط العلماء في عملهم بين منهج العالم ومنهج المعلّم، ممّا أدّى إلى صعوبة النّحو، وبالتّالي النّفور منه” (تمام، 1974، ص 285)، وإذا بدأنا من هذه المشكلة، فإنّ العلاج بادئ الأمر، يجب أن ينطلق من مرتكز إزالة مبدأ (العالم) من ذهن أستاذ مادّة النّحو؛ إذ يعدّ نفسه بحقّ عالمًا، وما يقوله يجب أن يلقى الصّدى في نفوس المتعلّمين، ومن لا يفعل ذلك فالخطأ عليه هو، وبالتّالي لا شيء يتغيّر، إلّا إلى استفحال مشكلة الضّعف النّحويّ، جيلًا بعد جيل، فاللغة العربيّة مادّة متشعّبة المسالك، ولا بدّ فيها من تحديد “محتوى محدّد وملائم، بالإضافة إلى اعتماد أساليب تدريس وأنشطة مناسبة، والأهمّ أن يتوفّر معلّم قادر على تدريسه” (الموسى، 2022، ص 146).

ومن أفضل الأمور الّتي يلجأ إليها المعلّم، أن يضع نفسه والمتعلّم بمكانة واحدة، إذ يشرح جملًا نحويّة بعروض تكنولوجيّة، تتجاوز المشهد التّقليديّ المحدود، أن اكتبوا القاعدة النّحويّة لكلّ جزئيّة في الشّرح آخر اللوح، بل هنا عروض على شاشة، فيها كلمات وملفّات معدّة بالألوان، وما يلزم تظليله لحذفه يتمّ ذلك في سرعة، وإعادته بضغطة زرّ واحدة، بخلاف المحو بممحاة اللوح، وإعادة الكتابة، ما يستغرق وقتًا مطوّلًا، ثمّ ينطلق من الشّواهد في القرآن الكريم، ويفسّر المعاني، ويحاول أن يستكشف مع الطّلّاب مواقع المفردات الإعرابيّة، وإعرابها، وفق استراتيجيّات التّعلّم النّاشطة، مثال: العصف الذّهنيّ، وباتّباع أداة القياس، بتقديم جمل فيها نوع من المشابهة لما سبق شرحه وبيانه.

ثمّ إنّ على المعلّم أن يحذر وضع التّكنولوجيا في يد الطّلّاب بشكل عشوائيّ، لم يعد صالحًا في هذا الزّمان أن يطلب منهم إعداد بحث ما، ويصحّحه، فأبسط ما يقوم به الطّلّاب اللجوء إلى التّكنولوجيا، بفتحهم موقع الـ Chat Gpt، بالنّسخة المتاحة مجّانًا، وتدوين عنوان البحث، ونسخ النّتائج من دون أدنى استيعاب أو حتّى محاولة قراءة، هنا المطلوب، لنقل مثالًا بحث لغويّ، نريد فيه حوارًا نحويًّا، إضافة إلى الحوار حول المعاني العامّة، مثال نريد من الطّالب أن يستخلص ثلاث جمل من بحثه، ويشير فيها إلى الفاعل وموقعه الإعرابيّ، والتّمييز وموقعه الإعرابيّ، والمفعول لأجله وموقعه الإعرابيّ، أو أيّة شواهد نحويّة أخرى يراها المعلّم، وإلّا فإنّ التّوظيف التّكنولوجيّ سيبقى فاشلًا وبعيدًا عن إعطاء أيّة نتيجة إيجابيّة.

لكن بعض التّقنيّات التّكنولوجيّة الّتي نريد منها معالجة الضّعف النّحويّ، قد تنفع كثيرًا في حالات التّرجمة، الّتي باتت تتمّ بضغطة واحدة في تطبيقات التّرجمة عبر الهاتف، لكنّها لا تنفع في أيّ حال في التّوظيف التّكنولوجيّ في معالجة الضّعف النّحويّ، بل إنّ الباحثة كنالي، ترى أنّ الحاسوب سيستقبل الكلام العربيّ المبنيّ في هيئة واحدة لا يمكن تغييرها، بالتّالي تُقرأ في وجه واحد، وضبط آخره ثابت؛ لذا لا بدّ من تمييز المبنيّ من المعرب، وهذا ما يُلزمنا بضبط الكلمات في المعرب، أو أن نُركّز على الأنظمة البنيويّة الثّابتة، مثال الفعل الماضي، وحروف العطف، وما إلى ذلك (كنالي، 20، ص 56).

من المؤكّد أنّ التّوظيف التّكنولوجيّ لا بدّ فيه ممّا يُسمّى “قاعدة البيانات المعجميّة”؛ لذلك نسأل عن الجدوى الفعليّة من غياب المعاجم النّحويّة المبسّطة جدًّا، مثلما نرى المعاجم اللغويّة القابلة للتّحميل في صيغة الـ pdf، حبّذا إنشاء معاجم نحويّة، لكن بشرط بعدها التّامّ عن الغموض والتّعقيد، والاستفاضة والتّطويل؛ لأنّنا سنرجع إلى المشكلة القائمة ذاتها، بلا أيّ تغيير إيجابيّ على الإطلاق؛ ليكن المعجم النّحويّ حاضرًا كملفّ نصّيّ pdf، وكتطبيقات تعمل وفق الذّكاء الاصطناعيّ، بما يُتيح للمتعلّم الحصول على المعلومة في سهولة، لكن مع قراءتها والاحتفاظ بها في ذهنه لسهولتها ويسر إدراك معانيها بفضل قلّة كلماتها، والأفضل من ذلك، إعطاء شاهد واحد مبسّط لكلّ قاعدة نحويّة، وإفساح المجال في التّطبيق للمتعلّم؛ ليقدّم شاهدًا آخر يختاره، إمّا بالبحث في الكتب أو في الإنترنت، أو من عنده، مع تفعيل أيقونات الفرح والسّعادة بالإجابة الصّحيحة، وهذا ممّا يُبهج الكبير مثلما يُبهج الصّغير، أيّ التّقدير المعنويّ، فيسعى إلى الاستزادة، ما يتسبّب فعليًّا في تخفيف ظاهرة الضّعف الإعرابيّ بقدر المستطاع.


خاتمة

في ما سبق دراسته وتحليله، تبيّن خطأ الفرضيّة الأولى، فالنّحاة اعترضوا على بعض الأوجه الإعرابيّة في القرآن الكريم، وضعّفوها ورفضوها، في مقابل إثبات الفرضيّة الثّانية إلى حدّ ما، إذ يمكن التّوظيف التّكنولوجيّ للتّطوّرات التّكنولوجيّة في تطوير الدّرس النّحويّ العربيّ، لكن بشكل محدود الآن، أمّا حين نعمل فعليًّا على تخفيف الضّعف النّحويّ الكامن في نفوس الطّلّاب وأذهانهم، فإنّ هذا التّوظيف التّكنولوجيّ قد يُقدّم فاعليّة أكبر بكثير ممّا هو متوقّع الآن.

أمّا الفرضيّة الثّالثة، فهي فرضيّة تراوحت بين الإثبات والنّفي، إذ من الممكن تأسيس المعجم النّحويّ العربيّ المبسّط تكنولوجيًّا، مثلما يوجد المعجم اللغويّ العربيّ، لكنّها ستفيد كثيرًا في معالجة الضّعف النّحويّ، لا قليلًا، إذا تمّ إنتاج مثل هذا المعجم بالشّكل التّكنولوجيّ الصّحيح، بينما الفرضيّة الرّابعة، صحيحة تمامًا، حتّى الآن؛ كونها موجّهة في المقام الأوّل إلى التّطبيقات الأجنبيّة، واللغات، بالأخصّ الإنكليزيّة، ولئن كان دورها في تطوير الموادّ اللغويّة العربيّة ليس بالدّور الكبير المؤثّر الآن، فما من شيء يمنع أن يكون دورها كذلك، في مستقبل الأمور.

ولنا أن نتقدّم بتوصيات كثيرة، تبدأ ولا تنتهي، لكنّنا سنوجزها في توصيات أساسيّة، وفق الآتي:

  • الابتعاد التّامّ عن الخلافات النّحويّة؛ لأنّها تزيد في الضّعف النّحويّ، ولنتركها للمتخصّصين الّذين تمكّنوا فعلًا من النّحو العربيّ تمكّنًا تامًّا.
  • التّوقّف عن الاستهتار بالنّحو كمادّة تعليميّة، بما يمنع الكتابة العشوائيّة من قبل الطّلّاب، فالإعراب إمّا أنّه صحيح تمامًا، وإمّا أنّه خطأ نهائيًّا.
  • العمل من قبل أساتذة مادّة النّحو على تطوير أنفسهم، ذاتيًّا وذهنيًّا، إذ من المستحيل توقّع نتائج صحيحة، والأستاذ يعدّ نفسه العالِم الّذي يتكلّم وكلامه مفهوم وواضح، بلا أيّ شكّ في ذلك!
  • العمل على إنتاج التّطبيقاتالمعجميّة النّحويّة، ممّا ذكرنا، وسواها في كلّ ما يمكن أن ينفع في معالجة الضّعف النّحويّ، من قبل المحترفين.

 

مراجع الدّراسة

  1. الأنباري، أبو البركات (1980). البيان في غريب إعراب القرآن. تحقيق طه عبد الحميد. القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج1.
  2. البغداديّ، عبد القادر (1997). خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب. شرح وتحقيق: عبد السّلام محمّد هارون”، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط4.
  3. جابر، وليد أحمد (2009). طرق التدريس العامة تخطيطها وتطبيقاتها التربوية.الأردن، دار الفكر للنشر، عمّان، ط3.
  4. الجوهري، أحمد بن حماد (1978). الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية.تحقيق أحمد عبد الغفار العطار، بيروت، دار العلم للملايين، ط4.
  5. حسان، تمام (1974). نحو تنسيق أفضل للجهود الرامية إلى تطوير اللغة العربية.مجلة اللسان العربي، المجلد 11، ج1، المغرب.
  6. حسنين، حسن شحاته (1993). أساسيّات التّدريس الفعال في العالم العربي. الدار المصريّة اللبنانيّة.
  7. الزّجّاج، أبو إسحاق إبراهيم، (1988م)، معاني القرآن وإعرابه.تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، الناشر: عالم الكتب – بيروت، ج2، ط1.
  8. زيتوني، نصيرة بونوة (2020). المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي.الإصدار الثامن عشر، تاريخ الإصدار 5-10-2020م.
  9. سمك، محمد صالح (1975). فن التدريس للغة العربية وانطباعاتها المسلكية وأنماطها العلمية. القاهرة: مصر، مكتبة الأنجلو المصرية.
  10. سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر (1988).الكتاب. تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، ج2.
  11. السامرائي، فاضل صالح (2003). معاني النحو.القاهرة – درب الأتراك، شركة العائك لصناعة الكتاب.
  12. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين (1980).همع الهوامع. تحقيق: عبد العال سالم مكرم، بيروت، دار البحوث العلمية، ج2، ط1.
  13. الشلاه، حيدر محمد هناء (لا.ت). فاعلية استراتيجية التساؤل الذاتي في تحصيل طلاب الصف الأول المتوسط في مادة قواعد اللغة العربية.جامعة بابل/كلية الدراسات القرآنية.
  14. عصر، حسني عبد الهادي (2005). فنون اللغة العربية… تعليمها وتقويم تعلمها،الإسكندرية، مركز الإسكندرية للكتاب.
  15. الفراهيدي، الخليل بن أحمد (لا.ت).العين. تحقيق: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي، دار ومكتبة الهلال، ج2.
  16. الكفوي، أبو البقاء (1998). الكليات. بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2.
  17. كنالي، وجدانصالح (2011). اللسانيات الحاسوبية العربية: الإطار والمنهج. المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب البنك الإسلامي للتنمية.
  18. ابن مالك،جمال الدين (1990)، شرح التسهيل. تحقيق: عبد الرحمن السيد، ومحمد بدوي، القاهرة، ج2، ط1.
  19. مصطفى، إبراهيم (1992). إحياء النحو. القاهرة، ط2.
  20. أبو المكارم، علي (2007). أصول التفكير النحوي. القاهرة، دار غريب للطّباعة والنّشر.
  21. الموسى، إبراهيم (2022). دور الاختبارات اللغوية في تقييم الكفاءة اللغوية للناطقين بغير العربية. مجلة الضاد الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، العدد1.

 

 

 

حقوق النشر © محفوظة لمجلة الضاد الدولية – العدد السابع، حزيران 2025.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة،  من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مجلة الضاد الدولية حصراً.

تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا البحث، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان البحث، المجلة، العدد، تاريخ النشر، الصفحات).

إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.

لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المجلة عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternationaljournal@gmail.com

Loading

Scroll to Top