تأصيل منهج الصُّورة الكامنة في البحث العلميِّ، انطلاقًا من واقعنا العربيِّ

 

 

 

📘عنوان البحث: تأصيل منهج الصُّورة الكامنة في البحث العلميِّ

✍المؤلف: د. عمر رياض قزيحه

📖 المجلة: مجلة الضاد الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية

📚 العدد: 7

📆 تاريخ النشر: حزيران 2025

📄 الصفحات: 130-160

🏛 دار النشر: دار البيان العربي

 

ملخَّص الدّراسة

في ظلِّ التَّطوُّرات المتسارعة والتَّغيُّرات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة التي يشهدها العالم العربيِّ، أصبح من الضَّروريِّ اعتماد مناهج بحثيَّة جديدة تتلاءم مع هذا السِّياق المعقَّد والمتنوَّع. تقدِّم هذه الدّراسة “منهج الصُّورة الكامنة” كأداة تحليليّة مبتكرة، تهدف إلى إلقاء الضَّوء على الجوانب الخفيَّة للتَّفاعلات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة. ويعتمد منهج الصُّورة الكامنة استكشاف الأسباب والدَّوافع الكامنة خلف الظَّواهر الاجتماعيَّة، وذلك من خلال قراءة ما وراء السُّطور واستخلاص المعاني المخفيَّة الَّتي لا يمكن تفسيرها باستخدام المناهج التَّقليديَّة.

تستند الدِّراسة إلى العديد من الأمثلة الواقعيَّة والحالات الدِّراسيَّة من مختلف الدُّول العربيَّة، إذ يتمُّ تطبيق منهج الصُّورة الكامنة للكشف عن الأسباب الكامنة خلف تلك الظَّواهر. من بين القضايا الَّتي تمَّ تناولها في البحث، التَّمييز بين الجنسين، العنف الاجتماعيُّ، التَّحرُّش اللفظيُّ، وكذلك تأثير الأعراف والتَّقاليد الاجتماعيَّة على سلوك الأفراد.

تهدف هذه الدّراسة إلى تقديم إطار نظريٍّ ومنهجيٍّ جديد، يسهم في تطوير البحث العلميِّ في المنطقة العربيَّة من خلال تحسين فهم التَّفاعلات الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة. كما يهدف إلى تقديم توصيات لتطوير منهج الصُّورة الكامنة في المستقبل وتعزيزها، وذلك من خلال تحليل فعاليَّة هذا المنهج وتطبيقه على الحالات الدِّراسيَّة والاجتماعيَّة المتعدِّدة.

بالإضافة إلى ذلك، تستعرض الدّراسة الفوائد والمزايا الَّتي يقدِّمها منهج الصُّورة الكامنة مقارنة بالمناهج البحثيَّة الأخرى، مع التَّركيز على دوره في تقديم تفسير شامل ودقيق للظَّواهر الاجتماعيَّة. كما يـسعى إلى توفير أدوات تحليليَّة جديدة تسهم في تحسين جودة البحث العلميِّ في العالم العربيِّ، وتطوير فهم أعمق للتَّفاعلات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة.

الكلمات_المفتاحيَّة: الصُّورة الكامنة، البحث العلميُّ، القضايا الاجتماعيَّة، العالم العربيُّ، المنهج الاستقرائيُّ.

Abstract

In light of rapid developments and socio-cultural changes in the Arab world, it has become essential to adopt new research methodologies that align with this complex and diverse context. This study presents the Latent Image Methodology as an innovative analytical tool aimed at shedding light on the hidden dimensions of social and cultural interactions. The methodology focuses on uncovering the underlying reasons and motivations behind social phenomena by reading between the lines and extracting hidden meanings that traditional methodologies fail to interpret.

The study draws on numerous real-life examples and case studies from various Arab countries, where the latent image methodology is applied to reveal the underlying causes of those phenomena. Among the issues explored are gender discrimination, social violence, verbal harassment, and the influence of customs and social traditions on individual behavior.

The objective of this research is to present a new theoretical and methodological framework that contributes to the development of scientific research in the Arab region by enhancing the understanding of social and psychological interactions. It also aims to offer recommendations for the future development and enhancement of the latent image methodology by analyzing its effectiveness and applying it to various case studies and social contexts.

Furthermore, the research highlights the benefits and advantages of the latent image methodology compared to other research methods, emphasizing its role in providing comprehensive and accurate interpretations of social phenomena. Through this study, we seek to provide new analytical tools that enhance the quality of scientific research in the Arab world and promote a deeper understanding of social and cultural interactions.

Keywords: latent image, scientific research, social issues, Arab world, inductive methodology.

مقدِّمة عامَّة (General Introduction)

في ظلِّ التَّطوُّرات العالميَّة المتسارعة، أصبح البحث العلميُّ أداة حيويَّة لفهم الظَّواهر الاجتماعيَّة والثَّقافية وتحليلها. تعتمد المجتمعات الحديثة مناهج بحثيَّة متنوعة لتقديم تفسيرات دقيقة وشاملة لهذه الظَّواهر. في هذا السِّياق، نقدِّم منهج الصُّورة الكامنة كـإضافة جديدة إلى المناهج البحثيَّة المعتمدة، وهو منهج نهدف، بتأصيله وتوظيفه تحليليًّا، إلى بيان مكامن الأسباب الخفيَّة والتَّفاعلات المعقَّدة الَّتي تتوارى خلف الظَّواهر الاجتماعيَّة في العالم العربيِّ.

التَّعريف بالبحث (Definition of the Research)

منهج الصُّورة الكامنة، هو منهج بحثيٌّ جديد، يعتمد تحليل الأسباب الكامنة، وقراءة ما وراء السُّطور، واستخلاص المعاني المخفيَّة. يهدف هذا المنهج إلى توفير فهم أعمق وأشمل للظَّواهر الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة الَّتي يمكن أن تكون غامضة أو غير مفسَّرة، تفسيرًا وافيًا باستخدام المناهج التَّقليديَّة، إنَّما نسعى إلى أن نقدِّم من خلاله أمرًا جديدًا، قد يفيد في العلوم التَّربويَّة، الاجتماعيَّة والنّفسيَّة.

أهمِّيَّة البحث (Importance of the Research)

ربَّما يكتسب هذا الموضوع أهمِّيَّة كبيرة؛ نظرًا إلى قدرته على تقديم رؤى جديدة ومبتكرة لتحليل الظَّواهر الاجتماعيَّة، وتحديد بعض الأخطاء التَّربويَّة، وانعكاساتها النَّفسيَّة بعد ذلك، ولا يخفى مدى أهمِّيَّة إدراك الخطأ وتصحيحه، على الصَّعيد الفرديِّ، الأسريِّ، والاجتماعيِّ بأكمله، وإذًا من خلال استخدام منهج الصُّورة الكامنة، يمكن للباحثين فهم التَّفاعلات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة فهمًا أفضل، وتقديم تفسيرات دقيقة وشاملة للظَّواهر الَّتي تهمُّ المجتمع العربيِّ.

أهداف البحث (Objectives of the Research)

  • تطوير منهج الصُّورة الكامنة؛ليكون أداة تحليليَّة جديدة في البحث العلميِّ.
  • تقديم إطار نظريٍّ،ومنهجيٍّ جديد؛ لفهم الظَّواهر الاجتماعيَّة والتَّربويَّة في العالم العربيِّ.
  • تحليل الحالات الاجتماعيَّةباستخدام منهج الصُّورة الكامنة؛ لتقديم توصيات تخدم المجتمع.

الإشكاليَّات (Research Questions)

  • ما هي الأسباب الكامنة في الظَّواهر الاجتماعيَّة الَّتي لا يمكن تفسيرها بالمناهج التَّقليديَّة؟
  • كيف يمكن توظيف منهج الصُّورة الكامنة في فهم التَّفاعلات الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة فهمًاأفضل؟
  • ما هي الفوائد والمزايا الَّتي يقدُّمها منهج الصُّورة الكامنة،مقارنة ببعض المناهج البحثيَّة الأخرى؟

الفرضيّّات (Hypotheses)

يقدِّم منهج الصُّورة الكامنة تفسيرًا أدقَّ، وأقوى شمولًا، للظَّواهر الاجتماعيَّة والتَّربويَّة، مقارنة ببعض المناهج التَّقليديَّة.

يمكن استخدام منهج الصُّورة الكامنة؛ لتحليل التَّفاعلات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة تحليلًا أكثر دقَّة.

تطوير منهج الصُّورة الكامنة سيسهم في تحسين جودة البحث العلميِّ في العالم العربيِّ.

مناهج البحث (Research Methodologies)

تقتضي طبيعة هذا البحث الَّذي نعتمد فيه الرُّؤية الذَّاتيَّة، والنَّظرة التَّحليليَّة، توظيف تقنيَّات بحثيَّة متعدِّدة، متمثِّلة في مزيج من المناهج الآتية:

المنهج الاستقرائيِّ (Inductive Methodology): يعتمد استقراء البيانات والمعلومات؛ للوصول إلى نتائج عامَّة، وقد وظَّفناه في فهم الظَّواهر الاجتماعيَّة في سياقها العامِّ.

المنهج الوصفيِّ (Descriptive Methodology): يعتمد وصف الظَّواهر وصفًا شاملًا، وقد وظَّفناه في توصيف الحالات الاجتماعيَّة توصيفًا يجمع بين ظواهرها المرئيَّة وبواطنها المتوارية خلف أسوار الإدراك المجتمعيِّ التَّقليديَّة.

المنهج التَّحليليِّ (Analytical Methodology): يعتمد تحليل البيانات والمعلومات؛ لفهم الأسباب الكامنة خلف الظَّواهر، وقد وظّفناه في تحليل التَّفاعلات النَّفسيَّة والاجتماعيَّة، عبر دراسات نظريَّة، وأخرى ميدانيَّة.

المنهج المقارن (Comparative Methodology): يعتمد مقارنة الظَّواهر المختلفة لفهم الفروق بينها، كذلك التَّشابهات، وقد وظَّفناه في مقارنة النَّتائج المستخلصة من منهج الصُّورة الكامنة، بالمناهج التَّقليديَّة.

الأدوات البحثيَّة العلميَّة (Scientific Research Tools):

ارتكازًا على الأداة العلميَّة الأولى، المتمثِّلة في تحديد مناهج البحث العلميَّة الملائمة لهذا العمل الاستقرائيِّ التَّحليليِّ، اعتمدنا الأدوات العلميَّة الآتية:

رفض الأحكام المسبقة (الهالة الوهميَّة) (Rejection of the aura effect): لتمرين العقل على اعتماد الحياديَّة Neutrality، الموضوعيَّة Objectivity، والتَّجرُّد Impartiality، بعيدًا عن عواطف دينيَّة محيطة بنا، وأحكام حياة اجتماعيَّة تكاد تحكم حياتنا بحدود، بل بسدود، بما فيها من الصَّواب والخطأ.

المقابلة (Interview): وهي المقابلة المباشرة Direct Interview، وجهًا لوجه؛ لاستقراء الحدث Event Induction، سواء أكان ميدان المقابلة بيتَ عيِّنة بحثيَّة Research Sample، أم كان ضمن الميدان العمليِّ التَّربويِّ مباشرة.

الملاحظة المقارنة (Comparative Observation): بتوظيفنا الخبرة التَّربويَّة المطوَّلة، في ميدان تعليميِّ وتربويّ نفسيِّ، في بيئات متعدِّدة الأهواء الاجتماعيَّة، تكاد النَّتيجة التَّربويَّة فيها تكون واحدة بلا أدنى اختلاف، وكذلك الملاحظة المطوَّلة الَّتي تتناول مجتمعات متعدِّدة، في أكثر من دولة تعتمد النِّظام الشَّرقيَّ التَّربويَّ Eastern Educational System.

الدّراسة

نحاول في ما سيأتي تأصيل مدرسة البحث العلميِّ العربيَّة، لكنَّنا نبدأ أوَّلًا بسبب تراجع العرب في سلَّم البحث العلميِّ، لن نندفع في المبالغات ونقارن ما بين حجم الإنفاق على البحث العلميّ بين دولة عربيَّة تعتمد الاستيراد فحسب، وبين دولة غربيَّة تعتمد تصنيع التُّكنولوجيا وتطويرها وتصديرها؛ لنقول إنَّ العرب لا يهتمُّون بالبحث العلميِّ، فواقع المقارنة يعتمد أكثر من أمر جوهريٍّ، أوّلًا حجم المساحة وعدد السُّكَّان، ثانيًا الحاجة الاستهلاكيَّة، ثالثًا هل هناك مجال للتَّطوير فعلًا انطلاقًا من أبحاثنا العلميَّة هذه، وإن كان المجال متاحًا، فهل ضمن فسحة فيه أو ضِيق؟

فالدُّول، متطوِّرة اقتصاديًّا كانت أم لم تكن كذلك، تدرك أنَّ الإنفاق على البحث العلميِّ ليس هدرًا، بل له آثار إيجابيَّة، وإن تفاوتت النَّظرة إليها، ويبدو أنَّنا في العالم الثَّالث عمومًا نرى أنَّ هذه الآثار تتمثَّل عبر المدى البعيد لا الآنيِّ، عبر “زيادة المقدرة الإنتاجيَّة القوميَّة بصورة غير مباشرة” (المهايني، والجشي، 2000، ص 99)، بينما الدِّراسات الاقتصاديَّة الجادَّة، تشير إلى أن دعم البحث العلميِّ التَّطبيقيِّ، يؤدِّي إلى “نموِّ النَّاتج القوميِّ وتحسين مستوى المعيشة بين 60-80%، وهي نسبة كبيرة تُقدَّر عوائدها بأضعاف عوائد عناصر الاستثمار الأخرى” (عوض وعوض، 1988، ص 42)، أمَّا في بلادنا العربيَّة، فإنَّ الإحصاءات تشير إلى أنَّ “تمويل البحث… من أكثر المستويات انخفاضًا في العالم” (تقرير، 2003، ص 73)، ربَّما لسبب ذلك لم تصل أيَّة دولة عربيَّة في رصد موازناتها العامَّة بهدف تطوير البحث العلميِّ والإنفاق عليه، إلى المستوى المعياريِّ العالميِّ (غنيمة، 2001، ص 208)، ونسبته 1% فقط من حجم الموازنة العامَّة (صادق، 2014، ص 49).

تراجعنا في سلَّم البحث العلميِّ له أسباب كثيرة، منها ما قد رصدناه من أخطاء بعض المناقشين باختراع الأخطاء غير الموجودة، بما لا يفيد الطَّالب في أعماله البحثيَّة القادمة، كذلك الحضور من الطُّلَّاب يتعمَّق في أذهانهم أنَّهم حين يُنهون أعمالهم البحثيَّة فإنَّهم سيتعرَّضون إلى التَّوبيخ والتَّقريع في المناقشة، بسبب وبدون سبب، كذلك لضعف مردود البحث العلميِّ وإفادته أسباب أخرى كثيرة، منها أنَّ

الأعمال البحثيَّة الجماعيَّة قليلة في عالمنا العربيِّ، ولا نقول منعدمة، البحث العلميُّ الجماعيُّ يعطي قيمة مضافة إلى العمل، هذا العمل الذي يهدف إلى بناء معلومات وتقديمها، فالعمل الجماعيُّ يزيد من قوَّة المعلومات وهذا “من شأنه أن يزيد من الاتِّصال بين مختلف العلوم ويرفع مردوديَّة البحث العلميِّ” (بلغيث، 2006، ص 129).

فإذا كان واقعنا البحثيُّ العلميُّ العربيُّ ضعيفًا، متراجعًا في مقابل تقدُّم البحث العلميِّ الغربيِّ، سواء في مجالات الصِّناعة والتَّطوير، إذ نعتمد على الاستيراد أكثر بكثير من الإنتاج، وفي مجالات البحث العلميِّ نفسه، إذ أخذناها كاملة من المدارس الأجنبيَّة، من ناحية الإشكاليَّات، الفرضيَّات، التَّوثيق، المناهج البحثيَّة، فهل يمكن لنا فعلًا أن نأتي بمنهج جديد من مناهج البحث العلميِّ؟ هل يمكن لنا حقًّا أن نؤسِّس مدرسة البحث العلميِّ العربيَّة؟

لماذا نتراجع؟ سؤال يقودنا إلى الرُّجوع إلى طرائق المعرفة الأربع التي قدَّمها الفيلسوف الأمريكي بيرس Peirce، هذه الطَّرائق أو لنسمِّها المستويات، حين يغلب بعضها على بعض، فإنَّ تقدُّمنا العلميَّ سيكون ضعيفًا جدًّا، نفصِّلها ونشرحها وفق ما يأتي:

  • أوَّلًا: طريقة التَّشبُّث: Method of Tenacity: هي ما يعرف الإنسان أنَّه حقيقة،أو يظنُّه الحقيقة، فيتمسَّك بها بكلِّ عناد، سواءً أتَّفقَت مع الحقائق أم لا، ويزداد العناد إذا ما اكتسَت هذه (الحقائق) الصِّبغة الدِّينيَّة، حتَّى لو لم يكن لها أدنى صِلة بالدِّين.
  • ثانيًا: طريقة السُّلطةauthority approach: أيُّ قول لعالم مشهور، أو كلام يدعم تقاليدنا، هذه حقيقة واقعة غير قابلة للنِّقاش بأيِّ حالٍ من الأحوال، ولأيِّ سبب كان، وعندنا في العالم العربيِّ نخترع القول، ونخترع العالم المشهور كذلك لو أردنا، كمثال قول انتشر بقوَّة في مجتمعات الإنترنت المتنوِّعة، مفاده أن “سُئل عالم جليل هل كان الرَّسول محمَّد أمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب؟ فقال كذبوا، بل كان والله يقرأ ويكتب بسبعين لسانًا، لكن سُمِّي بالأمِّيِّ نسبةً إلى أمِّ القرى”! من هو هذا العالِم الجليل؟ من الذي جعله جليلًا؟ هل بلغَت به الجلالة إلى حدِّ مخالفة القرآن الكريم، والله يقول فيه مخاطبًا الرَّسول محمَّدًا: {وما كنْتَ تتلو من قبله من كتاب ولا تخطُّه بيمينك}؟ (القرآن، العنكبوت 48)، الإجابة عند طريقة السُّلطة هذه بادئ الأمر، ثمَّ عند طريقة التَّشبُّث بعد ذلك، فما من قوَّة تستطيع انتزاع هذا الهراء من الأذهان بسهولة!
  • ثالثًا: طريقة المعرفة المسبقة Apriori Method، تعني بإيجاز أنَّالحقائق المقبولة تُثبت نفسها بنفسها Self – Evident، هذه حقائق يقبلها العقل، حتَّى لو لم نستطع قياسها، فالرُّوح مثالًا موجودة، ولن نستطيع قياس وجودها، وقد حاول فعل ذلك ماكدوجال McDougall في أمريكا من قبل، حين وضع بعض المحتضرين على ميزان عملاق، وأخذ يقيس تغيُّر أوزانهم، ثمَّ أعلن أنَّ وزن الرُّوح يعادل كيلوغرامات محدَّدة، لكن حتَّى هذا القياس رفضته الدُّول المتقدِّمة وحكمت عليه بأنّه قاصر عن الحقيقة.

رابعًا: الطَّريقة العلميَّة scientific approach: تعتمد المقاربة العلميَّة القائمة على التَّصحيح الذَّاتيِّ، وفق ضوابط ومعايير صحيحة توجِّه العالِم إلى اكتشاف الحقائق، أو وفق ترجمة حرفيَّة لكلام بيرس: “ويجب أن تكون الطَّريقة على نحوٍ تكون فيه الاستنتاجات الغائبة لكلِّ فرد هي نفسها، وتلك هي طريقة العلوم، وفرضيَّتها الأساسيَّة هي: إنَّ ثمَّة أشياء حقيقيَّة تكون صفاتها مستقلَّةً تمامًا عن رأينا فيها” (عقل، 1982، ص 26 – 28).

تلك الدول الغربيَّة الَّتي تُصنِّع الهواتف والكومبيوترات والسَّيَّارات والطَّائرات والسَّاعات الذَّكيَّة، وما سوى ذلك، وتطوِّر في أشكالها وخصائصها وميِّزاتها، كما تطوَّرت في العلوم الجنائيَّة مثال: لومينول (Luminol)، وعلوم الأنساب Deoxyribonucleic acid مثال (DNA)، والشَّواهد تطول وتكاد لا تنتهي، من البديهيِّ أن يكون حجم إنفاقها على البحوث العلميَّة كبيرًا، أكبر بكثير ممَّا قد تنفقه بلادنا مجتمعةً على البحوث العلميَّة، ليس هذا لأنَّ المؤامرات علينا قائمة ليلًا نهارًا، فقط لأنَّنا عرب، لا نُنكر نظريَّة المؤامرة، ربَّما هي موجودة في بعض المواضع، لكنْ حتمًا حياتنا ليست مؤامراتٍ من أوَّلها إلى آخرها، هناك أخطاء منَّا نحن العرب (بخاصَّة المسلمون)، ننسبها من دون أن نتكلم، إلى الدِّين الإسلاميّ، إذ نأخذ الخرافات وننشرها على أساس أنَّ هذا هو الدِّين، فنتخلَّف أكثر وأكثر علميًّا وحضاريًّا.

لئلَّا نلقي الكلام هكذا من دون سند، نقدِّم ثلاثةً من الأمثلة فحسب – كي لا يتحوَّل مبحثنا إلى مجلَّد – نبدأها بالرُّسوم المسيئة إلى النَّبيِّ محمَّد، من الرَّسَّام الدَّانماركيِّ قديمًا، باغتنا خبر عجيب انتشر بسرعة قياسيَّة في مواقع الشَّبكة العنكبوتيَّة، مع تعليقات النَّشوة والحماسة والسَّعادة، مفاد الخبر: (امرأة فلسطينيَّة موحِّدة، رأت في منامها الرَّسَّام الدَّانماركيَّ يموت محترقًا، وبما أنَّ الحكومة الدانماركيَّة لم تعلن الخبر، هذا يعني أنَّها تُخبِّئ الحقائق، انظروا كيف كان عاقبة الظالمين)، وما إلى ذلك الكلام، نسأل أنفسنا لماذا استخدام مصطلح (موحِّدة)؟ ونجيب عن السُّؤال بأنَّ ذلك لإثارة انتباه العاطفة لا العقل، إنَّها موحِّدة، إذًا هنا ثقة بالكلام، بعد ذلك رأت في (منامها)، وما أبرعنا في المنامات وتفسيرها، نحن أمَّة عربيَّة نعيش الأحلام والمنامات والأوهام أكثر ممَّا نعيش الواقع، هنا اكتملت الخيوط كلُّها في العقول العاطفيَّة Emotional Minds الَّتي توقَّفت عن العمل، كلُّ ما ستقوله هذه المرأة صحيح، والحكومة الدَّانماركيَّة تُخبِّئ الحقائق الَّتي لا يمكن تخبئتها، بغضِّ النّظر هل المنام صار نشرة الأخبار أم ما المقصود بالتَّحديد؟! المستفزُّ هنا أنَّ الرَّسَّام عاد إلى الظُّهور بعدها، وعاد إلى رسوماته المسيئة، وبعد مدَّة عاد الخبر ذاته (امرأة فلسطينيَّة موحِّدة، رأت في منامها أنَّه يحترق، والحكومة تُخبِّئ الحقائق) ينتشر في سرعة مذهلة، نتناوله بالسّعادة والحماسة وتبادل عبارات التَّهنئة!

المثال الثّاني الَّذي نقدِّمه يتعلَّق بمعلومة تكنولوجيَّة انتشرت كذلك مثل النَّار، تحوَّلت بغتة إلى معلومة من علم المقدرة الإلهيَّة، فنالت المشاركات والإعجاب والتَّعليقات في الفيس بوك، ونسخها في المنتديات مع أسئلة (سنسرقها، سننشرها)، وصاحب الموضوع يردُّ بسماحة النَّفس أن (تفضَّلوا من دون إذن) ربَّما يظنُّ بذلك أنَّه يسهم في نشر دليل لا يعلمه أحد سواه عن عظمة الرَّبِّ، أمَّا المعلومة فهي: (هل تعلم لماذا لا تستطيع إنشاء مجلَّد Folder في الكومبيوتر وتسمِّيه con؟ لأنَّ الله وحده من يقول للشَّيء كن فيكون)! كان لنا جدال طويل مع كثير فيهم، الرُّدود انزعاج وغضب، أن هل نشكِّك في القدرة الإلهيَّة؟ نسألهم هل con وكُنْ، هما ذاتهما في المعنى؟ بل هل هما ذاتهما لفظًا؟ ما دلالة القدرة الإلهيَّة على أنَّه لا يمكن تسمية الملفِّ بـ aux؟ ما دلالة القدرة الإلهيَّة على أنَّه لا يمكن تسمية الملفِّ بـ nul؟ حسنًا، لو كانت هذه العاطفة مسوَّغة لكم، فكيف نستطيع إنشاء Folder، كذلك Notpead نسمِّيه باللغة العربيَّة كُنْ؟ هل انتفَت تلك المقدرة الإلهيَّة في هذه الحالة؟ بل كيف تكتبون أنتم كلمة “كُن”، وتتلفظُّون بها؟ (بملاحظة أنَّ إنشاء مجلَّد باسم con ليس مستحيلًا).

هل هذا ممَّا يدخل في باب المؤامرات الَّتي نعيشها في الواقع والوهم معًا، ونتخيَّل أنَّنا المظلومون الَّذي لا ينام مَن في هذا العالم، في هذه الكرة الأرضيَّة، قبل أن يتآمروا عليهم؟ نعم صحيح أنَّ المؤامرة موجودة، في تأليف هذه المعلومات الغبيَّة، لكن من ينشرها ويسارع في نشرها، من يظلُّ يجادل فيها حتَّى بعد أن تُبيِّن له بطلانها، تَغْيِيبِنا عقولنا نهائيًّا، هل هذه مؤامرة من الغرب ليبقى متقدِّمًا علميًّا علينا، ونبقى نحن متخلِّفين علميًّا نتَّبع هذا الغرب ونضيع من دون إبداعاته العلميَّة؟

آخر ما نستشهد به ضمن هذه الشَّواهد، قصَّة تعدَّت مرحلة الانتشار كذلك إلى مرحلة الخلاف، (بطل) الحكاية من هذه الدَّولة أو تلك؟ سافر إلى دولته والتقى بإمام ما؟ أو أنَّه اتَّصل هاتفيًّا من أمريكا وسأل العلماء في بلاده؟ مفاد القصَّة أنَّ طبيبًا (مسلمًا) يعمل في مستشفى أمريكي، جاءت امرأتان للولادة، ولدتا في غرفة واحدة، في وقت واحد، واحدة ولدت صبيًّا وواحدة ولدت بنتًا، أخطأت الممرضة فلم تعرف الصَّبيَّ لمن منهما (على أساس أنَّهما نامتا فوق بعضهما حين ولدتا، وفي الثَّانية ذاتها، في جزء الثَّانية ذاته تمَّت الولادة ونزل الولدان فاختلط الأمر على الممرِّضة)!

العجيب التَّمادي هنا في تسفيه العلم، بقول من ألَّفوا القصَّة: فحص ال DNA أخطأ، فإذ بمدير المستشفى يقول للطَّبيب المسلم ألا تقولون إنَّ في كتابكم حلًّا لكلِّ المشاكل؟ ويطلب منه حلَّ المشكلة، يتوتَّر الطبيب، يقلق، يخاف الفشل، يسافر إلى بلده ليسأل أحد المشايخ (أو يتَّصل من أمريكا بأحد العلماء)، الطَّريف أنَّ العالم لا يُعطيه الإجابة على الرُّغم من أنَّه يعرفها، فقط يطلب منه قراءة سورة النِّساء، وفي الطّائرة وهو عائد (أو في مكتبه بالمستشفى) جلس يفكِّر ويسأل نفسه: ماذا يقصد هذا العالِم؟ ثمَّ يفتح القرآن ويقرأ في سورة النِّساء (لماذا فكَّر قبل أن يقرأها)؟ وإذ به (يكتشف الحقيقة) بغتة! فيذهب إلى مدير المستشفى ليقول له إنَّ {للذَّكر مثل حظِّ الأنثيين} (القرآن، النساء 11)، فقاموا بقياس قوَّة الحليب عند المرأتين، وإذ به عند إحداهما ضعف الأخرى، فأعطَوها الصَّبيَّ وأعطوا الأخرى البنت! والنتيجة انبهارٌ وخشوعٌ، وإسلامُ مدير المستشفى والممرضة وطاقم الأطبَّاء…

نسأل كيف أخطأ فحص ال DNA؟ قبل اكتشاف هذه التِّقنيَّة، كان الأب إذا شكَّ في أنَّ الطِّفل طفله فعلًا، يطلب معاينة فئة دم الطِّفل Blood Type Testing ليرى هل تطابق فئة دمه هو؟ هذا الأسلوب يؤدِّي إلى الخطأ أحيانًا، أنتج الجهد في البحوث العلميَّة عن اكتشاف ال DNA وبدأ استخدامه سنة 1990، لكن كيف أخطأ هذا التَّحليل؟ هل يدرك من ألَّف هذه القصَّة، بل هل يدرك من قام بنشرها من دون أدنى تفكير ما هو ال DNA الَّذي أخطأ، وكيف تعمل تقنيَّته؟ للأسف هناك نسخة (محدَّثة) من الحكاية، حذفوا منها عبارة (فحص ال DNA أخطأ)، كأنهم بذلك يُكسبون القصَّة صفة الثِّقة!

امرأتان أمريكيَّتان، كلتاهما لم تهتمَّ بمعرفة جنس الجنين الَّذي تحمله، كلتاهما دخلت المستشفى في الوقت ذاته، وكان نصيبهما الغرفة ذاتها، وولدتا في الثَّانية ذاتها، بحضور ممرِّضة واحدة فقط، من دون أطبَّاء، فإمَّا أنَّها قامت بتوليدهما فوق بعضهما، أو أنَّها ولدتهما في سرير واحد، لكنَّها مدَّت يديها لينزل كلُّ ولد في يد، وأخذت تقذف بكلٍّ منهما من يد إلى يد؛ لذا أخطأت في معرفة الصَّبيِّ لمن والبنت لمن! هذا عدا عن أنَّ {للذكر مثل حظِّ الأنثيين} ليست للرَّضاعة، بل لحالاتٍ في أصول الميراث، وإلَّا لوجب أن نُطعم الصَّبيَّ ضعف ما نُطعم البنت، وإذا اشترينا حذاء للبنت تنتعله في قدميها أن نشتري حذاءين للصَّبيِّ لينتعلهما في قدميه فوق بعضهما، ثمَّ إنَّ الغريب أنَّ المرأتين سلَّمتا بالنَّتيجة، أعطَوا هذه الصَّبيَّ وأعطَوا تلك البنت، ولم تسأل إحداهما شيئًا، أو لعلَّهما سألتا وسلَّمتا بنتيجة مذكورة في كتابٍ ربَّما لم تسمعا عنه في حياتهما كلِّها؟ لكن مع ذلك، لا اعتراض، وفق مبدأ أنَّ {للذكر مثل حظ الأنثيين} حقيقة علميَّة ثابتة! ثمَّ إنَّ كتابنا ليس فيه حلٌّ لكلِّ المشاكل، هو كتاب تشريع ومعاملات وعبادات، إذا كان للقاضي في بعض الحالات أن يأخذ بالاجتهاد، حين يُعرض عليه شيء ليس في الكتاب أو في السُّنَّة، فأين ذهن من يدَّعي أنَّ في كتابنا حلًّا لكلِّ المشاكل؟

ماذا عن مناهج البحث العلميِّ في هذه الحالة؟ كيف نستطيع أن نوظِّفها في مثل هذه الأمور المستفزَّة الَّتي يغرق فيها مجتمعنا، ومثالها العشرات من الشَّواهد الَّتي لا قيمة علميَّة لها؟ لم نَرَ اتِّفاقًا بين الباحثين على تحديد مناهج البحث العلميِّ تحديدًا تامًّا نهائيًّا، فلكلٍّ وجهة نظر في إضافة مناهج علميَّة، فمثال ذلك ماركيز Marguis، يفصِّل مناهج البحث العلميَّ في ستَّة أنواع: (المنهج الأنثروبولوجيُّ Anthropological approach)، (المنهج الفلسفيُّ Philosophical approach)، (منهج دراسة الحالة Case Study)، (المنهج التَّاريخيُّ: Historical Research)، (منهج الدِّراسات المسحيَّة: Survey studies method)، (المنهج التَّجريبيُّ: Experimental Research)، بينما يرى ويتني Whitney أنَّ مناهج البحث العلميِّ سبعة لا ستَّة، ويصنِّفها وفق الآتي: (المنهج الوصفيُّ: descriptive methodology)، (المنهج التَّاريخيُّ Historical Research)، (المنهج التَّنبُّؤيُّ: Predictive approach)، (المنهج التَّجريبيُّ Experimental Research)، (المنهج الاجتماعيُّ: The social approach)، (المنهج الفلسفيُّ: Philosophical approach)، (المنهج الإبداعيُّ: Depositary approach) ((بدر، 1989، ص 181-186).

ومن الباحثين من صنَّف مناهج البحث العلميِّ، نظرًا إلى طبيعة البحث ذاته، فللبحث الكمِّيِّ أربعة مناهج:

(المنهج المسحيُّ الوصفيُّ: descriptive Christian methodology).

(المنهج التَّجريبيُّ: Experimental Research).

(المنهج المقارن: Coparative Research).

(المنهج التَّاريخيُّ: Historical Research).

وللبحث العلميِّ النَّوعيِّ ستَّة مناهج:

(منهج دراسة الحالة Case Study).

(دراسات الأعراق – الأثنوغرافيا Ethnography).

(منهج تحليل الوثائق Document Analysis methodology ).

(البحث الإجرائيُّ Action Research)

(النَّظريَّة المتجذِّرة Grounded Theory). (قنديلجي والسامرائي، 2009، ف5-6).

يرى الدُّكتور ربحي مصطفى عليان أنَّ مناهج البحث العلميَّ الرَّئيسة أربعة، يوسِّعها في الفصل الثَّاني من كتابه بعنوان مناهج وأساليب البحث العلميِّ Reseach Methods، بدءًا من الصَّفحة 35 وما بعدها، بعناوين: “المنهج التَّاريخيُّ”، “المنهج الوصفيُّ”، “المنهج التَّجريبيُّ”، “المنهج الإجرائيُّ/ التَّطويريُّ The procedural developmental approach”، مقدِّمًا مناهج بحث أخرى وأساليب، ذاكرًا “أنَّها على سبيل المثال لا الحصر” (لا.ت، ص 63-65)، ما يؤكِّد ما نودُّ توثيقه بأنَّه ما من تحديد واضح واحد للمناهج العلميَّة إطلاقًا.

نرجع إلى الأمثلة الَّتي قدَّمناها، إذا وظَّفنا المنهج الاستقرائيَّ هنا، فأخذنا نستقرئ عناصر هذه الأمور ومكوِّناتها، بناءها كلاميًّا، وسرعة انتشارها، والحماسة الغريبة لها، يتبيَّن لنا أنَّنا في المثال الأوَّل ضعاف، نأخذ بالعاطفة الدِّينيَّة، ملأنا الغضب فغاب العقل؛ لذا استسلمنا لفكرة احتراق الرَّسَّام الدَّانماركيِّ (مرَّتين لا مرَّة)، وفي كلِّ الأحوال، الغضب والهدوء (كما في المثالين الثَّاني والثَّالث)، نحن ضعاف نأخذ بالعاطفة الدِّينيَّة لا بالعلم، إذًا نحن متعلِّقون بالدِّين كثيرًا، فنحن في حالة ضياع.

سنحاول هنا أن نتجاوز المنهج الاستقرائيَّ إلى ما نريد تسميته منهج الصُّورة الكامنة، هذه الصُّورة الَّتي تختفي في ثنايا العقل، خلف مساحة واسعة بيضاء، فيها معلومات وفرضيَّات نأخذها على علَّاتها، من دون أن ننظر إلى ما خلفها، وإلى ما تخبِّئه عنَّا، إذًا في منهج الصُّورة الكامنة نرى نتيجة تختلف عن مثيلتها في المنهج الاستقرائيِّ، بل تُناقِضُها كلَّ التَّناقض، وفاقًا لهذا المنهج العلميِّ الجديد الَّذي نسعى إلى تأصيله، انطلاقًا من واقعنا العربيِّ، نحن نأخذ بالعاطفة الدِّينيَّة لأنَّنا لا نفهم ديننا أساسًا، ولأنَّنا ابتعدنا عن ديننا ابتعادًا فظيعًا (لا لأنَّنا متعلِّقون به)، لذلك كلُّ خبر عاطفيٌّ يُشبع الرُّوح، نسارع إلى التَّكبير ونشر هذا الخبر، لأنَّنا نعاني تأنيب ضمير خفيٍّ، نحاول تجاهله والادِّعاء أنَّنا بخير!

لكنَّ منهج الصُّورة الكامنة لا يقتصر على هذا المجال الدِّينيِّ العاطفيِّ فحسب، بل إنَّنا نستطيع توظيفه في العلوم التَّربويَّة Educational Sciences والعلوم الاجتماعيَّة Social Sciences، وحتَّى العلوم الإنسانيَّة Humanities، نقدِّم شاهدين مرَّا بنا خلال خبرتنا التَّعليميَّة المطوَّلة، في كلٍّ منهما بنت وصبيٌّ، كلُّ شاهدٍ في محافظة تختلف عن الأخرى في بيئتها ومعيشتها ومعتقدها، نسمِّي الحالة الأولى مجازًا (آلاء)، نُسمِّي الحالة الثَّانية مجازًا (جوليا)، آلاء في صفِّنا، في الثَّاني إنسانيَّات، تُقدِّم مسابقتها ووجهها محتقن، يبدو عليها التَّوتُّر الزَّائد، بعد المسابقة تتكلَّم، ترجو أن نلاطفها في التَّصحيح؛ لأنَّها لم تتمكَّن من الدَّرس كثيرًا، انفعلَت وهي تؤكِّد لنا أنَّها كانت تدرس، تسهر في مراجعة الدُّروس، جاء أخوها الشَّابُّ، بعد لعب طويل، طلب منها (هكذا قالت، الواقع أنَّه أمرها) أن تُعِدَّ له كوبَ شايٍ، قالت له غدًا عندي امتحان، أصرَّ على أوامره، رفعت صوتها قليلًا وهي تردُّ، وإذ بأمِّها تندفع نحوها وتصفعها صفعة عنيفة؛ لأنَّها بنت ويجب أن تسمع كلمة الصَّبيِّ!

استطرادًا نؤكِّد هذه الحادثة، شقيق هذه الفتاة نعرفه جيِّدًا، لكنّنا لم نكتفِ بهذه المعرفة، كان لنا مقابلة Interview ميدانيَّة في بيت الطَّالبة (قزيحه وقصيباتي ورمَّال، 2022، ص 39)، وفي الجلسة أمُّها وأخوها، تكلَّمنا على تلك (الذِّكرى)، فالزِّيارة الميدانيَّة كانت بعد سنة ونصف تقريبًا من ملاحظة الحادثة، بمجرَّد أن سألنا الأمَّ (لِمَ صفعتِ آلاء)؟ كان الرَّدُّ (إنَّ على البنت أن تُغلق فمها حينما يأمرها الصَّبيُّ ولا تتكلَّم إلَّا حينما تُنفِّذ له أوامره).

البيئة الأخرى الَّتي تختلف عن هذه البيئة في كلِّ شيء تقريبًا، جوليا في الثَّامن (الاسم مجازيٌّ)، جوليا تختلف عن آلاء، هي من بيئة حضاريَّة أكثر، جوليا بلا أمٍّ، أمُّها على قيد الحياة، لكنَّها انفصلت عن زوجها بسبب الخلافات، جوليا أصغر الأبناء، هي البنت الوحيدة؛ ولأنَّها كذلك (لا بنت سواها في البيت) رفض أبوها أن يتخلَّى لطليقته عنها، من الذي (سيخدمُهُ) والصِّبيان الأربعة إذًا لو ذهبَت البنت؟ مرَّةً لم تحضر جوليا، لم نعتد منها الغياب، لكنَّ غيابها استمرَّ أيَّامًا معدودةً، ثمَّ رجعت إلينا، مكسورة حزينة، لقد (أخطأَتْ) وفي عملها (قصَّرَتْ)، لم تُقدِّر الوقت قبل أن تُشغِّل الغسَّالة، أخوها يريد أن يتنزَّه، وقد قرَّر أن يرتدي سترة بعينها، هذه السُّترة لم تجفَّ بعد، غضب هذا الصَّبيُّ، اشتكى إلى أبيه، الأب أنَّب جوليا وضربها، وحرمها الذَّهاب إلى مدرستها أيَّامًا إمعانًا في عقوبته لها (قزيحه وقصيباتي ورمَّال، ص 39).

دعنا نقارن هنا في النَّتائج بين المنهجين: (الاستقرائيِّ)، (الصُّورة الكامنة)، في المنهج الاستقرائيِّ نسعى إلى استقراء الدَّافع الذي حدا بأمِّ آلاء إلى أن تضربها على وجهها، يتبيَّن لنا من تقرير آلاء الذَّاتيّ ِSelf Report أنَّ ذلك كان بسبب رفعها صوتها في وجه أخيها الصَّبيِّ، ومن التَّقرير الذَّاتيِّ الآخر الخاصِّ بأمِّها أنَّ ذلك لأنَّها عارضَت أمرَ أخيها الصَّبيِّ، وتتبيَّن لنا نتيجة قد نقبلها وقد نرفضها، مفادها أنَّ على آلاء تنفيذ أمر أخيها الصَّبيِّ، أيًّا كانت حالتها وحالته، وأيًّا كان الوقت، وفي حالة جوليا نسعى إلى استقراء الدَّافع الَّذي حدا بأبيها إلى أن يضربها، يتبيَّن لنا ممَّا علمنا من محيط جوليا أوَّلًا، ثمَّ تقريرها الذَّاتيِّ بعد ذلك، أنَّ المسبِّب ذلك تأخُّر جوليا في غسل سترة أخيها، ما أدَّى إلى تأخُّر جفافها في منشر الغسيل، ما أدَّى بدوره إلى غضب الأخير لأنَّه لن يتنزه بالسُّترة الَّتي يحبُّها مع رفاقه!

سنتناول الأمر في منهجنا العربيِّ الخالص، منهج الصُّورة الكامنة، باختلاف المجتمعين عقديًّا وواقعيًّا، (واجتماعهما عربيًّا)، لن نكتفي باستقراء الأمر الظَّاهر فحسب، نحن نريد ما توارى من المعلومات والحقائق خلف المساحة الظَّاهرة عيانًا لنا، نريد أن نقرأ ما وراء السُّطور، فلا نسعى إلى أن نعرف: (لماذا ضربَتِ الأمُّ ابنتَها آلاء على وجهها)؟ بل نحاول تحديد: (لماذا ضربَتِ الأمُّ ابنتَها لأنَّها رفعَت صوتها في وجه أخيها الصَّبيِّ)؟ ما كان إجابةً من قبل في المنهج الاستقرائيِّ، هو هنا جزء من السُّؤال الَّذي نريد الإحاطة بجوانبه كلِّها، ولا نكتفي بالسُّؤال: (لماذا ضرب الأب ابنته جوليا)؟ بل الصَّحيح أن نسأل: (لماذا ضرب الأب ابنته جوليا لأنَّها تأخَّرت في غسل سترة أخيها)؟

هذا يقودنا إلى الكارثة التَّربويَّة الاجتماعيَّة التي نعيشها، تلك النَّظرة الَّتي يحملها الكثيرون فينا، منذ العصر الجاهليِّ إلى العصر الحضاريِّ الآن، وربَّما إلى أن تفنى الكرة الأرضيَّة بأكملها، النَّظرة الَّتي تقتضي أنَّ البنات خاطئات بالفطرة Instinctinal Mistakes، عقلهنَّ قليل، والصَّبيُّ دائمًا الأفضل وفي المركز الأعلى والأقوى (الأمُّ ترى ذلك قبل الأب، بل ربَّما أكثر منه)، هذا التَّأطير الاجتماعيُّ الوهميُّ الََّذي اخترعته مجتمعاتنا وبيئاتنا العربيَّة، يتمثَّل في مقياس العلاقات الاجتماعيَّة Sociometer، القائمة ما بين الذَّكر والأنثى في مجتمعاتنا العربيَّة.

مثال ذلك، سيِّدة زرناها مرَّة، ابنتها كانت تلميذتنا، تقارن بين زمانها وهذا الزَّمان الَّذي انقلبَت فيه المفاهيم، ابنها الصَّبيُّ عنده نوع من الإعاقة الذِّهنيَّة، لكنَّ ابنتها وهي أكبر منه لا تأتمر بأوامره، وتتذكَّر السَّيِّدة حين كان أخوها يضربها، وهي لا تعلم السَّبب، ثمَّ تذهب إليه بعد أن تبكي طبعًا، تمسح دموعها، وتتناول يد أخيها الَّذي ضربها وتقبِّلها طالبة المسامحة، وهو لم يخبرها حتَّى لماذا ضربها؟ ومن منحَهُ الحقَّ في ضربها؟ سألها زميل لنا كان معنا في الزِّيارة إلى هذا الحدِّ كنتِ تحبِّين أخاكِ؟ لم تُجب، كأنَّما هذا السُّؤال ليس في موضعه، ولا معنى له!

هذا الزَّميل على حقٍّ تمامًا، لكن هذا لو أنَّنا أخذنا الأمر من ناحية استقرائيَّة، أمَّا لو أخذناه من ناحية الصُّورة الكامنة، الاجتماعيَّة – التَّربويَّة العربيَّة، فالحبُّ لا يُشكِّل السَّبب، ولا الكره، بل هو ما غُرس في ذهنها منذ بدأت تعي الحياة، أنَّكِ البنت (الأدنى)، وأنَّه الصَّبيُّ (الأعلى)، أمُّها أو جدَّتها هي من تغرس في ذهنها هذه المفاهيم.

نذكر دراسة قدَّمناها في أحد المنتديات منذ سنوات (قزيحه، 2018، موقع إلكترونيّ)، ذكرت سيِّدة من السُّودان أنَّ جدتها كانت تجمع بنات العائلة، لتفهمَهُنَّ أنَّ الصَّبيَّ حقُّه أن يضربهنَّ ولو أنَّه وُلِدَ البارحة والبنت في الثَّلاثين، فلا يحقُّ لها الاعتراض حتَّى.

نسأل وفق المنهج الاستقرائيِّ، عن السَّبب الَّذي يجعل البنت تسكت إذا تعرَّضَت إلى التَّحرُّش اللفظيِّ Verbal Harassment، وإذا تكلَّمت لرجلٍ فإنَّها تبحث عمَّن تعتقد أنَّه أهل للثِّقة، والأفضل ألَّا يعرفها ولا تعرفه كذلك، نستشهد بفتاة في مدرسة تركناها منذ سنوات، الفتاة لم تكن تلميذتنا، لا تعرفنا ولا نعرفها شخصيًّا، نصحَتْها رفيقتها بأن تستشيرنا، ولو كنَّا نعرف شكلها لما تكلَّمت، وحتَّى في هذه الحالة تردَّدت فترة طويلة جدًّا، ثمَّ أخبرتنا أنَّ صديقًا لنا في المهنة يرسل إليها وإلى زميلاتها رسائل فيها تحرُّش لفظيٌّ، الأمر له شهور معدودات، والآن تكلَّمت، طبعًا زميلنا من ذلك براء، فحسابه في الفيس بوك مسروق، نشرنا التَّحذير للجميع في وسائل التَّواصل، لِيَقُمْنَ بحظر الحساب المسروق، تعترف هنا بعض البنات بتعرُّضهنَّ إلى التَّحرُّش اللفظيِّ منه، سألناهنَّ لمَ السُّكوت إلى الآن، استقرائيًّا السُّكوت لأنَّ الكلام عن ذلك عيب، وإجابة بعضهنَّ حرفيًّا (لا نعلم أنَّه يجب أن نقول أمرًا كهذا).

نسأل وفق منهج الصُّورة الكامنة، عن السَّبب الَّذي يجعل البنت تسكت إذا تعرَّضَت إلى التَّحرُّش اللفظيِّ، الأمر لا علاقة مباشرة له بمفاهيم العيب الاجتماعيَّة، أو بجهلهنَّ في أنَّه (يجب) أن يتكلَّمْنَ بذلك، بل إنَّ الصُّورة الكامنة تُعطينا الإجابة الصَّريحة والصَّحيحة، إنَّها كامنة فعلًا في مقياس العلاقات الاجتماعيَّة Sociometer، القائمة ما بين الذَّكر والأنثى في مجتمعاتنا العربيَّة، العلاقات الَّتي تجعل الأنثى في المرتبة الأدنى ولو كانت على الحقِّ، الصُّورة الكامنة الَّتي إن أزلْنا ما قبلها من مسافات فيها معلومات تمتلئ بالهالة الفارغة aura effect، سنجد السَّبب المباشر، أنَّ المجتمع سيلوم البنت الَّتي تعرَّضت للتَّحرُّش اللفظيِّ، سيجد المسوِّغات للذَّكر، فقط لأنَّها أنثى ولأنَّه ذكر، وقد أكَّدْنا ذلك بنصيحتنا للَّتي كانت (شجاعة) وأخبرتْنَا، أن تشتكي إلى النِّيابة العامَّة لتحوِّل الأمر إلى قسم جرائم الإنترنت، من الممكن لهنَّ الحصول على بروتوكولات الإنترنت (IP) Internet Protocols الَّذي تصل إليهنَّ الرَّسائل منه، والردُّ كان الرُّعب، كيف نفعل هذا؟ هل نفضح أنفسنا أنَّ هناك من تحرَّش بنا؟ أهلي قد يتفهَّمون الأمر، لكنِ البنات الأخريات؟ سيضربهنَّ آباؤهنَّ حتَّى يشعرْنَ بالموت! ما يدفع بنا إلى التّساؤل، إلى أيّ حدّ يكشف لنا منهج الصّورة الكامنة عن فجوة زمانيّة حضاريّة، تنعكس بين الوجدان الجمعيِّ التَّربويِّ عندنا، وبين انعكاساته الواقعيّة المدمّرة؟ هذا بالنّسبة إلى التَّحرُّش اللفظيِّ، فكيف لو تمادى الأمر بالذَّكر لتتعرَّض الأنثى إلى التَّحرُّش الجسديِّ Verbal Harassment؟ ما الَّذي سيتبيّن لنا في سكوتها وخوفها، مقابل انصرافه يشعر بالرّضا واللذّة والانتصار، إذا استقرأنا الواقعة في منهج الصُّورة الكامنة الَّذي نحاول توصيفه وتأصيله؟

ربَّما في الغرب نرى التَّمييز، لكنَّه ليس بهذه الحِدَّة الاجتماعيَّة، ليس إلى حدِّ أن تتعرَّض البنت إلى التَّحرُّش اللفظيِّ، فيلومها أهلها ويضربونها إذا أخبرَتْهم بذلك؛ لذا نجد أنَّ الصُّورة الكامنة كمنهج علميٍّ لا يمكن اعتماده في أبحاثهم التَّربويَّة – الاجتماعيَّة، بخلاف الأمر عندنا، ربَّما لو فعَّلناه في أبحاثنا العلميَّة المتعلِّقة بعلوم الإنسان Human Sciences في مجتمعه، لو تابعنا القضايا الجنائيَّة في العالم العربيِّ، والقريب من العالم العربيِّ في العادات (مثل باكستان)، لوجدنا كثيرًا في هذه القضايا جرائم قتل من شباب لأخواتهنَّ بدعوى الشَّرف وغسل العار، بل بعض الحالات الأمُّ تشارك أبناءها الشَّباب في قتل ابنتها، لهذه الحجَّة نفسها، منهج الصُّورة الكامنة يكشف لنا كثيرًا ممَّا لا تكشفه مناهج البحث العلميِّ الأخرى.

من شواهد ذلك: رحاب في الأردن – قضيَّة حدثت سنة 2009م –  ضربها زوجها، فقدت ذاكرتها، ألقاها في مركز متخصِّص للاعتناء بها وهرب، ادَّعى أنَّها هربت من بيته، أهدر أبوها وأخوها دمها، تكشَّفت الحقيقة بعد شهور، المرأة في المركز الطِّبِّيِّ تسترجع ذاكرتها قليلًا، ثمَّ في بيت ممرِّضة تطوَّعت لتعتني بها كي لا يلقوها في الشَّارع؛ إذ لم يدفع زوجها سوى القليل، انكشفت كلُّ الأمور، أخذوا لها الأمان من أبيها وأخيها، وحين جاءت اندفعت إلى أبيها تحاول أن تسترجع شعورًا بالأمان افتقدته شهورًا، نسف أخوها رأسها برصاصتين، وأخذ يهتف سعيدًا بأنَّه ردَّ الشرف للعائلة، استقرائيًّا هو غسل العار، الصُّورة الكامنة تدلُّنا على أنَّ هذا ليس بصحيح، هو ليس مجنونًا ليعتقد أنَّ امرأةً نالت ضربة ناريَّة على رأسها وفقدت ذاكرتها، قد ارتكبت ما يخالف الشَّرف، تبيِّن لنا الصُّورة الكامنة أنَّ البيئة الَّتي يعيشها أبًا عن جدٍّ، استمرَّت قرونًا سابقة، وتستمرُّ الآن، وما تزال تستمرُّ، هذه الصُّورة الكامنة تُظهر لنا مفهوم (خاطئات بالفطرة)، ضربها زوجها حتَّى كاد يصيبها بالجنون، من دون سبب؟ أمر طبيعيٌّ! لكنْ، امرأة متزوِّجة تنام خارج بيتها، حتَّى لو في مركز للعلاج ألقاها زوجها فيه باسم وهميٍّ وهرب بلا رجوع، سيجعل الناس يتكلَّمون على هذا الأخ، ويتشكَّكون في رجولته؛ لذا حمل وزر دمها، فقط ليثبت أنَّه رجل، وهو يعلم قبل سواه أنَّ أخته طاهرة عفيفة.

قلنا إنَّ زوجها ضربها حتَّى كاد يصيبها بالجنون، من دون سبب، نعم، من دون سبب، فلا يوجد في أيِّ عرف كان، أنَّ خروج المرأة إلى شرفة بيتها أمر معيب وعار، لكنَّها الصُّورة الكامنة كذلك هنا، أنَّه رجل، ذكر، شرقيٌّ، يعني أنَّه أعلى من هذه المرأة، وهي أدنى، يحقُّ له أن يضربها بمنتهى العنف،  من دون أيِّ سبب حقيقيٍّ واقعيٍّ، المنهج الاستقرائيُّ يدلُّنا على أنَّه ضربها لأنَّها خرجت إلى الشُّرفة، منهج الصُّورة الكامنة يطرح السُّؤال الأعمق والأشمل: (لماذا ضربها لأنَّها خرجت إلى الشُّرفة)؟ والنَّتيجة تُفصح عن نفسها، بكلِّ وضوح.

كذلك، نستشهد من باكستان، بما حدث للطَّالبة في المرحلة الثَّانويَّة زينات رفيق – قضيَّة حدثت سنة 2016م – هذه الفتاة ذات الثَّماني عشرة سنة، منذ طفولتها وهي تلعب – أمام عيني أمِّها – مع ابن جارتها (حسن خان)، كبرت زينات، هي تتكلَّم مع حسن، أمر عاديٌّ طبيعيٌّ، لم تعترض أمُّها، فهي قبل سواها تشهد لحسن بالأدب والتَّربية الرَّاقية، لكن حين قال حسن إنَّه يحبُّ زينات ويريدها له زوجًا، جُنَّت أمُّها وضربتها ضربًا مبرِّحًا، وأخذت تتحدَّث عن الشَّرف وغسل العار (حسن يكلِّم زينات وهي تكلِّمه، لا بأس، طلبها بالحلال، صارت القضيَّة قضيَّة شرف وغسل عار)!!

شارك ابناها الشَّابَّان في ضرب زينات حتَّى كادت تصل إلى الموت، ألقَوها خارج البيت، أسعفها حسن إلى المستشفى؛ ولأنَّه لمسها ليسندها إلى سيارته، ولما تعانيه على يد أهلها، تزوَّجها زواجًا شرعيًّا، ونقلها إلى بيته بعد العلاج، جاء عمُّها، الكلُّ يشهد له بالاحترام والصِّدق والأمانة، حلف إنَّ زينات في أمان، وإنَّهم فقط، حفاظًا على سمعة العائلة، يريدون أن ترجع زينات إلى بيت أهلها، لتقضي أيَّام الاستعداد للزِّفاف هناك (سبعة أيَّام)، ثمَّ تخرج بالفستان الأبيض، تكريمًا لها، وهذا تكريم لأهلها، عادت زينات بناء على قسم عمِّها، كبير العائلة، ضربتها أمُّها وأحد الأخوين، ربطاها، ألقت عليها أمُّها موادَّ قابلة للاشتعال، وأحرقتها، هكذا بكلِّ بساطة، أمام القاضي قالت إنَّها كانت تغسل عار العائلة بذلك، وأعطاها القاضي البراءة!

انطلاقًا من المنهج الاستقرائيِّ، زينات تحبُّ شابًّا، تعشق من خلف أهلها، بل تتحدَّث أمامهم عن الحبِّ والهوى، كما أنَّها تزوَّجت من دون علمهم ورضاهم؛ لذا قتلوها لأنَّ مبادئ الشَّرف عندهم تقتضي ذلك، حتَّى لو كان هذا الكلام ممَّا لا نتقبَّله، ويُصدِّق نتيجةَ المنهج الاستقرائيِّ اقتناعُ القاضي نفسه بذلك، وحكمه الَّذي أصدره على الأمِّ، ورجعت بموجبه إلى بيتها.

لكنْ، بتوظيفنا منهج الصُّورة الكامنة في البحث العلميِّ، نرى أنَّ نتيجة المنهج الاستقرائيِّ ليست بصحيحة إطلاقًا! فحسن وزينات يتكلَّمان دائمًا، وأمُّ زينات تراهما، بل تلقي التَّحيَّة على حسن، ويلقي التَّحيَّة عليها، ثمَّ إنَّ زينات لم تهرب مع حسن لنتكلَّم عن جرائم الشَّرف وغسل العار، لم تتزوَّج من دون علمهم ورضاهم لأنَّها أرادت ذلك، بل لأنَّ أمَّها ألقتها بين الحياة والموت خارج البيت، ولا مكان لها تذهب إليه من بعد المستشفى، من هو حسن هذا؟ ابن الجارة المحترمة فقط؟ إذًا لماذا حدث كلُّ ما حدث؟ بسبب أمرين يتوضَّحان لنا من قراءة ما بين السُّطور، ما خلف منهج المنهج الاستقرائيِّ، حسن فقير، وأمُّ زينات أرملة، الأرملة في عرف تلك المناطق امرأة نحس، لولا ذلك ما مات زوجها قبلها! هي تكلِّم الجيران، لكنَّ الزيارات قليلة، وعمومًا ليست بمحبوبة كثيرًا، ابنتها في غاية الحسن والجمال، الكلُّ يحبُّها ويحترمها (الأهل يرسلون أطفالهم إليها لتعلِّمهم كيفيَّة تلاوة القرآن الصَّحيحة)، وفي عرفهم كذلك لا ينظرون إلى البنت كما ينظرون إلى أمِّها الأرملة أنَّها نحس، من جمال زينات واحترام النَّاس إيَّاها انتظرت الأمُّ الزَّوج المستقبليَّ القادم لابنتها، الغنيَّ طبعًا، هكذا لن يتحدَّث النَّاس عنها أنَّها امرأة نحس، تنتفي عنها هذه الصِّفة، وإذ بزينات تخبرها أنَّ ابن الجارة حسن، الشَّابَّ الطيِّب الخلوق يريد أن يطلب يدها، لو وافقت الأمُّ، فهذا يُثبِّت أنَّها منحوسة، ابنتها رمز الجمال والطِّيب والأخلاق، الَّتي يحبُّها الكبير والصَّغير، لم يأخذها سوى ذاك الفقير شبه المُعدَم، كلام النِّساء هنا: “كيف؟ معقول”؟ “طبيعيٌّ، هذه ابنة المنحوسة، نحستها أمُّها كما نحست أباها قبلها، فمات في ريعان شبابه”.

إذًا، المنهج الاستقرائيُّ أعطانا نتيجةَ ما تستكين إليه نفوسنا، أنَّنا قد وصلنا إلى حقيقة الأمر، وفهمنا مسبِّبات النتائج، بل تمكنَّا من توثيق كلامنا بشاهد مباشر، لكنَّ الرُّجوع إلى منهج الصُّورة الكامنة كشف لنا ما خلف المساحات البيضاء الخادعة، إذ أحطنا علمًا بمفردات البيئة، ومثيرات الاستجابة، وهذا ما اقتنع به القاضي نفسه حين عرض حسن في مقابلة تلفزيونيَّة وثيقة الزَّواج، وقال إنَّ البنت لم تهرب من بيت أهلها، وإنَّهم أعطوها الأمان لترجع إليهم ثمَّ قتلوها؛ أعاد الحكم على الأمِّ بالشَّنق، وعلى ابنها الهارب بالسِّجن عشرين سنة.

وقريبًا من هذا المجال، قضيَّة سليم وابنته هديل، سليم الرَّجل الَّذي كانت له أمنية وحيدة في الحياة، أن يرزقه الله ببنت يدلِّلها، تزوَّج، رزقه الله بما تمنَّى طويلًا، لكنَّ امرأته تركته بعد ولادتها بشهور، لم تتحمَّل الحياة شبه المعدمة معه أكثر، ربَّى سليم ابنته، لم يتزوَّج في ذلك الوقت، اعتنى بطفلته هديل وحده، حتَّى وصلت هديل إلى أواخر سنة التَّخرُّج في الجامعة، خُطبت هديل، أدرك سليم أنَّ أسابيع قليلة تفصله عن فراق ابنته، قرَّر فجأة أن يُحبَّ ويعشق، وقد كان ذلك! أحبَّ فتاة رآها مع أمِّها – كانت تأتيه إلى محلِّه المختصِّ بإصلاح الأدوات الكهربائيَّة – هو لم يسمع صوت هذه الفتاة حتَّى، أحبَّها من شكلها، وهي تقريبًا في عمر ابنته هديل!

تقدَّم سليم ليطلب يد الفتاة، اشترط أبوها أن يُسجِّل بيته باسمها، خوفًا أن يكون الأمر نزوة وتسلية، أمَّا إن لم يكن كذلك فليوفِّقهما الله! وافق سليم بعد تردُّد وبعد اعتراض من أخته ومن ابنته هديل، سليم تضايق من أمر، أنَّه لا يُسمح له بالجلوس مع مخطوبته وحدهما، كأنَّه مراهق، وقد تخطَّى الخمسين، ربَّما أكبر من أبيها كذلك، بل حين يكلِّمها تردُّ أمُّها، تمَّ الزِّفاف، جاء سليم إلى بيته بعد انصراف النِّساء، وجد عروسه نائمة! نام في الصَّالة متعجِّبًا من هذه العروس الغريبة وردَّة فعلها العجيبة، اليوم التَّالي ذهب يوقظ امرأته، فوجئ بخصلات شعرها قد انزاحت عن أذنها، الفتاة شبه صمَّاء، تركِّب سماعة حلزونيَّة، ومع ذلك لا تسمع ما لم يصرخ الذي يكلِّمها في أذنيها مباشرة، بأعلى صوته.

أدرك سليم أنَّه وقع ضحيَّة النَّصب، بقدر ما أحبَّ هذه الفتاة أبغضها، قرَّر أن يقتلها لكن بأسلوب فذٍّ لا يمكن اكتشافه، كي لا يُشنَق، حين اشتدَّ البرد، جاءته امرأته (روان) بلحافها الكهربائيِّ ترجوه أن يُصلحه لها، وضع سليم خبرته الكهربائيَّة كلَّها وحوَّل اللحاف إلى فخٍّ قاتلٍ لا نجاة منه، بعد انصراف هديل إلى جامعتها، قال سليم لروان إنَّه أصلح اللحاف وانصرف إلى عمله، طبعًا لأنَّ روان تهوى النَّوم بشكل عجيب، ستنام بعد انصرافه مثل العادة، لكن هذه المرَّة ستنام في اللحاف الكهربائيِّ وتضع القابس في الكهرباء وعندئذٍ!!

ما لم يدركه سليم أنَّ تشعر ابنته ببرد رهيب غير مسبوق، جعلها تترك جامعتها وترجع إلى البيت بأقصى سرعة، شعرت روان بالحنان عليها، وعلى الرّغم من شعورها بالبرد الشَّديد، تركت لحافها لهديل لتنام فيه، فكان أن سرت في جسد هديل صاعقة كهربائيَّة فحَّمَت جسدها في ثوان، وبلغ من شدَّتها أن انفصلت القواطع الكهربائيَّة كلُّها عن العمل تلقائيًّا، ماتت هديل، وذهب سليم إلى المصحَّة النَّفسيَّة للعلاج بعد وقوعه فريسة انهيار عصبيٍّ شديد، تضارَبت الآراء بعدها هل تمَّ إعدامه سنة 2012، أو أنَّه ظلَّ في السِّجن حتَّى الآن، بعد إعفائه من الإعدام نظرًا إلى حالته العصبيَّة وأنَّه شبه مجنون؟

المنهج الاستقرائيُّ يدلُّنا على أنَّ سليم سعى إلى قتل روان؛ لأنَّها دمَّرت عواطفه ومشاعره، ونسفَت حبَّه الصَّادق الَّذي كبَتَه سنوات طوالًا؛ كي تظلَّ ابنته هديل وحدها في قلبه، لا يهتمُّ بسواها أو يأتيها بامرأة تسيء معاملتها، وحين أراد العودة إلى الحياة فعليًّا، أحبَّ روان، فكذبت عليه وخبَّأت مرضها، إذًا هي نصَّاب كبير (هكذا كان يراها، بل كان يراها النَّصب بحدِّ ذاته)، وتستحقُّ العقاب، ولا يوجد عقاب سوى القتل، فهو الوسيلة الوحيدة له ليتخلَّص من الكاذبة المخادعة، وليسترجع بيته الَّذي سجَّله لها بدواعي الحبِّ والهوى.

منهج الصُّورة الكامنة يقودنا إلى نتيجة مختلفة! لماذا لم يسأل سليم المحامي؟ لماذا لم يذهب مباشرة – من دون محامٍ – إلى المحكمة الشَّرعيَّة، يطالب بإبطال عقد الزَّواج لوجود خديعة فيه؟ ومن حقِّه أن يفعل ذلك، فلو عكسنا الأمور، أنَّ امرأة بعد زواجها اكتشفت مثلًا جرحًا قطعيًّا في ساق زوجها، هذا ليس سببًا لإبطال عقد الزَّواج، لأنَّ الرَّجل هو القوَّة الجنسيَّة، وليس الجمال الفائق، بينما الرَّجل يريد في امرأته الحُسن والجمال، وخديعة مثل هذه كفيلة بإبطال عقد الزَّواج فعليًّا بكلِّ ما فيه من الشُّروط، أي إنَّ بيت سليم كان في متناول يده بالفعل، وليس أمامه سوى مشوار بسيط إلى المحكمة الشَّرعيَّة وكفى، بل هناك الشَّكُّ في استحقاق روان نصف مهرها إن طلَّقها ولم يمسَّها، بما أنَّ العلَّة والخداع كلَّه منها ومن أهلها، إذًا لماذا قتلها؟ ألم نُجِب عن السُّؤال من قبل من خلال توظيف منهج الصُّورة الكامنة في الشَّواهد السَّابقة؟ الذَّكر الأعلى رتبة والأنثى الأدنى رتبة، وهو يأمر وهي تسمع وتطيع، لا يحقُّ لها أن ترفع صوتها أمامه، فكيف الحال إن قامت بخداعه بهذا الأسلوب؟ هل تحاول طعن رجولته مثلًا؟ يجب عقابها بقسوة شديدة، تتخطَّى حدود الضَّرب المبرِّح إلى حدود إنهائها من الحياة كلِّها.

في عالمنا التَّربويِّ، مشاكل كثيرة، اجتماعيَّة في كثير منها، وجميعها تتحوَّل إلى مشاكل نفسيَّة، ويرصد الطِّبُّ النَّفسيُّ عشراتٍ منها، يرصد ما يقترب من المئة مشكلة، ولنا أن نتخيَّل مثلًا، الابن، أو الابنة صاحبة الشَّخصيَّة الوسواسيَّة، والَّتي ورثت كلَّ صفات الوسوسة من والديها، حيث الجمود وعدم المرونة والتَّحفّظ في التَّعامل والدِّقَّة الزَّائدة عن الحدِّ ويقظة الضَّمير، لدرجة حساب النَّفس المستمرِّ بلا مبرِّرات قويَّة، والتَّردُّد الزَّائد في اتِّخاذ القرارات، والشَّكِ والخوف من الآخرين (عبد المحسن، لا.ت، ص 19)، فهل هذه هي التَّربية الَّتي نعكسها في نفوس بناتنا، وننتظر منهنَّ بعدها إحداث طفرة تربويَّة فذَّة في أولادهنَّ، أي في الجيل، لا بل في الأجيال التَّالية لنا في مجتمعاتنا الشَّرقيَّة؟

لن نستطرد في هذه الشَّواهد، ولو أردنا استعراض مثل هذه القضايا لما كفانا مجلَّد كبير، لكنَّنا سعينا إلى تأصيل منهج الصُّورة الكامنة، انطلاقًا من وعينا العاطفيِّ الفائر، ومن مقياس علاقات اجتماعيَّة Social Relationship Scale، لكنَّه مقياس مضطرب نتمسَّك به لأسباب مجهولة، ونقدِّم شاهدًا آخر لا علاقة له بالقتل لا من قريب ولا من بعيد، هي مقابلة ذاتيَّة لطالبة سابقة في صفوفنا، حصَّة تدريس خصوصيَّة سريعة قبل امتحان الشَّهادة، تُفاجئنا الطَّالبة بالقول إنَّها تعلم لِمَ يفرضون المريول على البنات في المدرسة؛ لأنَّهم لو لم يفعلوا ذلك، لارتدَت كلُّ البنات لباسًا فاحشًا مسيئًا؛ لذا يجب قمعهنَّ وإجبارهنَّ على ارتداء المريول!

هل نتذكَّر مصطلح “خاطئات بالفطرة”؟ ذلك المصطلح الَّذي يغرسُه مجتمعنا العربيُّ في ذهن البنات بمنتهى الحدَّة، ومنتهى قلَّة الوعي، في آنٍ واحد! هذه الطَّالبة سألناها هل تفعل ذلك في بيتها أمام الغرباء؟ نحن الآن في بيتها ندرِّسها، هل تفعل ذلك في الشَّارع مثلًا؟ هل تفعل ذلك إذا ذهبت إلى أيِّ مكان؟ (هي محتشمة في لباسها)، لم تُحِرْ إجابة ما! وقد استوعبنا ذلك الأمر منها، هي في نفسها ترفض أن تتخيَّل أن تأتي بما يخالف تربيتها، وهذا من فطرة تربويَّة سليمة، لكن حين يتعلَّق الأمر بالوجدان الجمعيِّ العامِّCollective Public Conscience ، فهي مثلها مثل أيَّة بنت أخرى في هذا العالم العربيِّ، كلُّهنَّ سواء! خاطئات بالفطرة حكمًا! بينما الصَّحيح، إذا ما تبيَّنت لنا الأسباب في منهج الصُّورة الكامنة والنَّتائج، أن نسير بالتَّربية وفق أنَّك الذَّكر الأعلى مرتبة في المجتمع، لما حُبيتَ به فطرة خَلقيَّة، ينبغي أن تتمثَّل بها تربية خُلقيَّة، وأنَّك الأنثى لكِ حقوقُكِ كاملة، مثلما عليكِ واجباتُكِ كاملةً، وبذا يكون كلٌّ من الطَّرفين قادرًا على أن يمضيَ قدمًا على طريق مسيرة الحياة الطويلة، بخطى ثابتة متأنِّية واعية، متجنِّبًا مخاطر عدم ضبط النَّفس، والانزلاق في متاهات المعاناة النَّفسيَّة (يسرى، لا.ت، ص 7).

يذكِّرنا هذا الكلام من هذه الطَّالبة برأي الأستاذة الدُّكتورة سوزان أبو رجيلي، أنَّ توحيد زيِّ الطُّلَّاب وسواه من الممارسات مثل توحيد الدَّفاتر والكتب “الغاية من وراء هذه الممارسات التَّربويَّة والإداريَّة في أغلب المدارس هو [هي] التَّحكُّم بعقول التَّلامذة”، ثمَّ إنَّها ترفض أيضًا الحجَّة الثَّانية لفرض الزِّيِّ الموحَّد، وهي تجنُّب أن يؤدِّي اللباس المختلف الأشكال والألوان إلى تفضيل الطُّلَّاب الاستعراض وإظهار الجمال على الهدف الأساسيِّ من وراء الذَّهاب إلى المدرسة”، معلومٌ أنَّ الزِّيَّ الموحَّد موجود أينما ذهبنا تقريبًا، عند أفراد الجيش، العمَّال في المطاعم، المساجين، لاعبي كرة القدم، لاعبي الرِّياضة على أنواعها، ولم يَقُل أحد إنَّ الزِّيَّ الموحَّد يهدف إلى التَّحكُّم بالعقول، لكن من ناحية المدرسة، من ناحية البنت العربيَّة تحديدًا، وهذه من ناحية التَّربية الَّتي تُغرس في ذهنها أنَّكِ الخاطئة بالفطرة، حتَّى لو كنتِ غاية في الاحترام، ولباسُكِ محتشم، لكن يجب قمعُكِ وكبتُكِ لأنَّكِ خاطئة بالفطرة تلقائيًّا، وبدون القمع والكبت لا فائدة! فهذا ما يدفع بنا إلى تلقِّي رأي الدُّكتورة سوزان بكلِّ تقدير، وذلك ممَّا يقودنا إليه منهج الصُّورة الكامنة في البحث العلميِّ العربيِّ، بكلِّ وضوح.

إنَّه مجتمعنا العربيُّ، بكلِّ إيجابيَّاته وسلبيَّاته، لسنا ندَّعي أنَّ الغرب مجتمع مثاليٌّ، والشَّرق مجتمع خطَّاء متخلِّف، عندنا الإيجابيُّ ممَّا نعتزُّ به، وندعو مجتمعنا دائمًا إلى الحفاظ على أصالته العربيَّة، لكنَّنا نتكلَّم على خطأ في زاوية تربويَّة معيَّنة، أنَّ البنت هي الخاطئة دائمًا سواء أكان عليها خطأ ما، أم كانَتِ الطَّرف المُعتدى عليه من دون أيِّ سبب، هل نذكر قضيَّة فتاة المعادي مريم تلك الفتاة الَّتي قُتلت علنًا في الشَّارع، في الثَّالث عشر من الشَّهر العاشر، سنة 2020، كانت الفتاة خارجة من دوامها، حين اندفعت نحوها سيَّارة، مدَّ رجل يده من النَّافذة يحاول انتزاع حقيبة مريم، تشبَّثت مريم بحقيبتها، زاد السَّائق سرعة السَّيارة، فاندفع جسد مريم وصدم سيَّارة متوقِّفة بالطَّريق، كما صدمتها السَّيارة الَّتي فيها هذا اللصُّ وزميله، وقد فعلا ذلك عمدًا؛ ليتمكنَّا من سرقة الحقيبة والهروب بها.

نزفت مريم في الشَّارع حتَّى ماتت، مباشرة برز مصطلح “خاطئات بالفطرة” في النُّفوس والعقول، وكم من المنشورات على الشَّبكة العنكبوتيَّة انهمرت في هجوم على الضَّحيَّة مريم، وأنَّها تستحقُّ ذلك؛ (لأنَّها تلبس البنطلون)! أو أنَّها تستحقُّ ذلك؛ (لأنَّها تضع الماكياج)، وممَّا يُريح النَّفس أنَّ القضاء لم يأخذ بهذه الوجدانيَّات السَّخيفة، هنا جريمة قتل، وقد اعترف اللصَّان بما فعلا، ليس لمريم وحدها، فهما يُشكِّلان عصابة سرقة، بخاصَّة سرقة حقائب النِّساء، وتركَّز نشاطهما في منطقة المعادي، قالا إنَّ “موضوع القتل ده حصل بالصُّدفة،” كأنَّه من غير الطَّبيعيِّ أن تموت فتاة دفعتها بقوَّة اندفاع السَّيَّارة ليصطدم رأسها بكلِّ عنف بسيَّارة وتسقط أرضًا بعنف، ثمَّ تمرُّ فوقها إطارات سيَّارة أخرى، أدلَّة الاتِّهام أثبتَت أنَّ القتل كان متعمَّدًا، ونال الرَّجلان حكم الإعدام، فهل غيَّر من هاجموا الفتاة الضَّحيَّة رأيهم هنا أو مرَّ الخبر عليهم مرور الكرام، وما تزال مريم محمَّد – رحمها الله – هي المذنبة، الخاطئة على الرَّغم من أنفها، حتَّى لو أنَّها لم تفعل شيئًا!!

تلك النَّظرة الدُّونيَّة Inferior View تدمِّر مجتمعاتنا، تربويًّا ونفسيًّا، إذ إنَّ من نشأت على هذه التَّربية منذ بدأت تعي الدُّنيا، ستنقلها إلى بناتها من بعدها، بل إلى أولادها الصِّبيان؛ لتغرس في نفوسهم أنَّهم الأعلى مقامًا، حتَّى لو كانوا مخطئين، فـ(الرَّجل لا يعيبه شيء)، وهكذا تختلط مفاهيم الرُّجولة بالتَّعدِّي وارتكاب الأخطاء، ومفاهيم الأنوثة بالخطأ، سواء أكانت معتدية أم معتدى عليها، ستزيد عاطفة الأنثى عاطفيَّة، وبدلًا من توجيهها عاطفتها في العالم الواقعيِّ، ستلجأ إلى عالم الوهم، سيهرب وعيها إلى عالم الأحلام، عالم الأفكار، حيث يمكنه أن يجد لنفسه مكانًا (سليم، 2002، ص 375)، فكيف ستربِّي أولادها التَّربية الاجتماعيَّة بعد ذلك؟ وإذا أخذنا بالمنهج الاستقرائيِّ، فسنرى النَّتيجة العامَّة الواضحة لأذهاننا فحسب، فهلَّا أخذنا بمنهج الصُّورة الكامنة، هذا المنهج العلميُّ النَّابع من صميم التَّجربة العربيَّة، من صلب الواقع العربيِّ الذي نعيشه وتُبنى أجيالنا جيلًا تلو الآخر فيه، في مسعًى لتطوير التَّربية الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة، للطَّرفين على حدٍّ سواء، الإناث والذُّكور قبل الإناث، بدلًا من الاعتماد المُطلق التَّامِّ على الغرب وعلومه النَّفسيَّة والتَّربويَّة، نظريًّا وتطبيقيًّا؟

 

خاتمة عامّة  (General Conclusion)

لقد قدَّم هذا البحث منهج الصُّورة الكامنة، أداة تحليليَّة جديدة ومبتكرة، تسهم في فهم أعمق للتَّفاعلات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة في العالم العربيِّ. من خلال تطبيق هذا المنهج على مجموعة متنوعة من الأمثلة الواقعيَّة، تمكنَّا من الكشف عن الأسباب الكامنة في الظَّواهر الاجتماعيَّة الَّتي لا يمكن تفسيرها باستخدام المناهج التَّقليديَّة. إنَّ منهج الصُّورة الكامنة يوفِّر إطارًا نظريًّا ومنهجيًّا قويًّا يمكن أن يسهم بشكل كبير في تطوير البحث العلميِّ في المنطقة العربيَّة، وتحسين جودة التَّفاعلات الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة، بل ربَّما إحداث طفرة تربويَّة Educational Breakthrough غير مسبوقة في عالمنا العربيِّ.

خلاصات منطقيَّة  (Logical Conclusions)

  • أوَّلًا: الكشف عن الأسباب الكامنة: يمكن لمنهج الصُّورة الكامنة أن يكشف عن الأسباب والدَّوافع الخفيَّة الَّتي تسهم في تشكيل الظَّواهر الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة.
  • ثانيًا: تحسين الفهم: يتيح هذا المنهج للباحثين تحسين فهمهم التَّفاعلات الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة،من خلال تحليل السِّياقات الكامنة والأسباب غير المرئيَّة.
  • ثالثًا: تقديم تفسير شامل: يوفِّر منهج الصُّورة الكامنة تفسيرات شاملة ودقيقة للظَّواهر الاجتماعيَّة الَّتي قد تكون غامضة أو معقَّدة.
  • رابعًا: تطوير البحث العلمي: يسهم استخدام هذا المنهج في تطوير البحث العلميِّفي المنطقة العربيَّة، من خلال تقديم أدوات تحليليَّة جديدة ومبتكرة.

توصيات للباحثين (Recommendations for Researchers)

  • أوّلًا: اعتماد منهج الصُّورة الكامنة: ننصح الباحثين باعتماد منهج الصُّورة الكامنة في دراساتهم لتحليل الظَّواهر الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة،وفهم الأسباب الكامنة خلفها.
  • ثانيًا: التَّدريب والتَّوعية: يتطلَّب تطبيق هذا المنهج تدريبًا على تقنيَّات القراءة بين السُّطور واستخلاص المعاني المخفيَّة؛لذا يجب توفير برامج تدريبيَّة متخصِّصة للباحثين.
  • ثالثًا: التَّعاون بين التَّخصُّصات: يمكن تعزيز فعاليَّة منهج الصُّورة الكامنة من خلال التَّعاون بين مختلف التَّخصُّصات الأكاديميَّة، مثل علم الاجتماع وعلم النَّفس والتَّربية.
  • رابعًا: النَّشر والمشاركة: نشجِّع الباحثين على نشر نتائج أبحاثهم الَّتي تعتمد منهج الصُّورة الكامنة ومشاركتها مع المجتمع الأكاديميِّ؛لتعزيز المعرفة والفهم.

آفاق جديدة (New Horizons)

  • أوَّلًا: توسيع التَّطبيقات: يمكن تطبيق منهج الصُّورة الكامنة على مجموعة واسعة من الظَّواهر الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة في مختلف الدُّول العربيَّة؛لفهم التَّفاعلات الاجتماعيَّة فهمًا أعمق.
  • ثانيًا: البحوث الميدانيَّة: إجراء بحوث ميدانيَّة تعتمد منهج الصُّورة الكامنة،يمكن أن يسهم في تقديم رؤى جديدة ومبتكرة لتحليل التَّحدِّيات الاجتماعيَّة والثَّقافيَّة، وتجاوزها.
  • ثالثًا: التَّطوير المستمرُّ: يجب العمل على تطوير منهج الصُّورة الكامنة تطويرًا مستمرًّا،من خلال التَّقييم والتَّحديث بناءً على نتائج الأبحاث التَّطبيقيَّة.
  • رابعًا: التَّعاون الدَّوليُّ: تعزيز التعاون مع الباحثين من مختلف أنحاء العالم؛لتبادل الخبرات والأفكار وتطوير منهج الصُّورة الكامنة إلى أقصى حدٍّ ممكن، فما يزال الآن في مراحله الأولى.

 

قائمة المصادر والمراجع

  1. باشا، حسان شمسي (2003)، كيف تربي أبناءك في هذا الزمان،دار القلم، الطبعة الثالثة.
  2. بدر، أحمد. (1989)، أصول البحث العلمي ومناهجه، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الخامسة.
  3. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2003)، تقرير الإنسانية العربية.
  4. بلغيث، سلطان (2006). دور المجتمعات العربية في دعم ثقافة البحث العلمي الإبداعي، مجلة شؤون عربية، عدد 127.
  5. سليم،مريم (2002). علم نفس النمو، دار النهضة العربية.
  6. صادق، محمد (2014)، البحث العلمي بين المشرق العربي والعالم الغربي كيف نهضوا ولماذا تراجعنا، دار النشر المصرية.
  7. عبد المحسن. يسرى(لا.ت)، المراهقات والطب النفسي، دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر.
  8. عقل، فاخر (1982)، أسس البحث في العلوم السلوكية، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية.
  9. عوض، عادل؛ وعوض، سامي(لا.ت)، البحث العلمي العربي وتحديات القرن القادم برنامج مقترح للاتصال والربط بين الجامعات العربية ومؤسسات التنمية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.
  10. غنيمة، محمد متولي (2001)، تمويل التعليم والبحث العلمي العربي المعاصر، الدار المصرية اللبنانية.
  11. قنديلجي، عامر؛ والسامرائي، إيمان (2009). البحث العلمي الكمي والنوعي، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، الأردن – عمان.
  12. مصطفى عليان، ربحي (لا.ت). البحث العلمي أسسه مناهجه وأساليبه إجراءاته. جامعة البلقاء التطبيقية، الأردن.
  13. المهايني والجشي (2000)، المالية العامة والتشريع الضريبي، منشورات جامعة دمشق.
  14. مواقع إلكترونيَّة
  15. قزيحه، عمر (2018): وماذا تتحمل النساء؟ حياة النساء بين الخيال والواقع!

روابط يوتيوب

https://www.msoms-anime.net/showthread.php?t=190446

https://al-akhbar.com/Community/316375-

https://www.almasryalyoum.com/news/details/2663688-

https://www.youtube.com/watch?v=bm-oZ0FkPn0

https://www.youtube.com/watch?v=LmYGSNgIpZA

https://www.youtube.com/watch?v=rDoiBBuxsCI

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حقوق النشر © محفوظة لمجلة الضاد الدولية – العدد السابع، حزيران 2025.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مجلة الضاد الدولية حصراً.

تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا البحث، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان البحث، المجلة، العدد، تاريخ النشر، الصفحات).

إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.

لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المجلة عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternationaljournal@gmail.com

الموقع الإلكتروني للمجلة: dhadinternationaljournal-hss.com

 

 

Loading

Scroll to Top