تسوية النّزاعات البحريّة وفقًا لاتّفاقيّة قانون البحار، بين السّلم والتّقاضي

 

 

 

 

📘 عنوان البحث:تسوية النّزاعات البحريّة وفقًا لاتّفاقيّة قانون البحار، بين السّلم والتّقاضي

✍المؤلف: د. ندى يونس

📖 المجلة: مجلة الضاد الدولية للعلوم الإنسانية والاجتماعية

📚 العدد: 7

📆 تاريخ النشر: حزيران 2025

📄 الصفحات: 281-306

🏛 دار النشر: دار البيان العربي

 

 

ملخّص الدّراسة

في عام 1982، اعتمد مؤتمر الأمم المتّحدة الثّالث لقانون البحار “اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار الدّوليّ (UNCLOS)”، وذلك بعد سنوات طويلة من المفاوضات المكثّفة. توفّر هذه الاتّفاقيّة إطارًا قانونيًّا شاملًا، حيث تضمّ 320 مادّة و9 ملاحق، توضح سبل تسوية النّزاعات البحريّة بطرق سلميّة، وكذلك من خلال القضاء.

وقد اختلف الفقه في الطّبيعة القانونيّة للنّزاعات الدّوليّة، حيث قسمها البعض إلى نزاعات قانونيّة ونزاعات سياسيّة. النّزاعات القانونيّة تُعرف بالنّزاعات القضائيّة الّتي يمكن إحالتها إلى القضاء الدّوليّ ليحكم بينها، بينما النّزاعات السّياسيّة هي الّتي يفضّل أطرافها تسوية نزاعاتهم عبر الوسائل السّياسيّة، علمًا أنّ الفرق بينهما مسألة نسبيّة، ونصّت اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار لعام 1982 على آليّات تُتيح تسوية كافّة أنواع النّزاعات البحريّة لكي تتمكّن أطراف النّزاع من الاستفادة من تسوية نزاعاتهم وفقًا لقانون البحار.

اشترط القانون الدّوليّ للبحار مجموعة من الشّروط لتسوية النزاعات البحريّة.  من أبرز هذه الشروط أن يكون النّزاع قائمًا بين دول أطراف في الاتّفاقيّة، وأن يحمل طابعًا قانونيّا، تبدأ التسوية عادة  باللجوء إلى الطّرق السّلميّة، وفي حال فشلها، تُستخدم الوسائل القضائيّة. والطّرق السّلميّة المعتمدة في تسوية النّزاعات البحريّة تُشابه تلك المتّبعة في النزاعات الدولية الأخرى. تشمل هذه الطرق: المفاوضات، والتّحقيق، والمساعي الحميدة، والوساطة، والتّوفيق. أمّا الوسائل القضائيّة، فتتمثّل في اللجوء إلى المحكمة الدّوليّة لقانون البحار، ومحكمة العدل الدّوليّة، ومحكمة التّحكيم، ومحكمة التّحكيم الخاصّ. يشكّل هذا النظام القضائي إطارًا قانونيًّا متكاملاً يضمن للدول المتنازعة إمكانية حلّ خلافاتها ضمن ضوابط القانون الدولي.

الكلمات_المفتاحيّة: اتفاقيّة قانون البحار القانون الدولي للبحار النزاعات البحريّة التسوية السلميّة التسوية القضائيّة.

Abstract

In 1982, the Third United Nations Conference on the Law of the Sea adopted the “United Nations Convention on the Law of the Sea (UNCLOS)” after many years of intensive negotiations. This Convention provides a comprehensive legal framework, comprising 320 articles and 9 annexes, which clarify the methods for peaceful settlement of maritime disputes, as well as judicial settlement mechanisms.

Scholars have differed regarding the legal nature of international disputes, with some dividing them into legal disputes and political disputes. Legal disputes refer to judicial conflicts that can be submitted to international courts for adjudication, whereas political disputes are those which the parties prefer to resolve through political means. It is worth noting that the distinction between them is relative. The 1982 United Nations Convention on the Law of the Sea stipulates mechanisms that enable the settlement of all types of maritime disputes, allowing the disputing parties to benefit from dispute resolution according to the law of the sea.

International law governing the sea sets certain conditions, including that the dispute must be between states party to the Convention, and that the dispute must be of a legal nature. Accordingly, the parties must first resort to peaceful means of dispute resolution, and if these fail, then resort to judicial means. The peaceful methods for settling maritime disputes are the same as those applied in other disputes and include negotiation, inquiry, good offices, mediation, and conciliation. Judicial means include the International Tribunal for the Law of the Sea, the International Court of Justice, arbitral tribunals, and special arbitration courts.

Keywords: Law of the Sea Convention – International Law of the Sea – Maritime Disputes – Peaceful Settlement – Judicial Settlement.

 

مقدّمة

تُعدّ الحدود أحد أبرز مظاهر السيادة للدول، إذ تُمثّل عنصرًا أساسيًّا في ضمان أمنها وتثبيت هويّتها وكيانها القانوني. فلا وجود لدولةٍ بلا حدود واضحة، وأيّ اعتداء على هذه الحدود دون محاسبة يُضعف مكانة الدولة في المحافل الدوليّة، ما لم تُبادر إلى استعادة سيادتها، سواء على المستوى البرّي أو الجوي أو البحري. من هذا المنطلق، تصبح آليّات تسوية النزاعات ضرورة ملحّة، لا بديل عنها، في مواجهة أيّ تعدٍّ على حدود الدول، بدلًا من الصمت أو الإذعان الذي قد يُفسّر على أنّه ضعف أو تخلٍّ عن السيادة.

وانطلاقًا ممّا سبق، تستمدّ الدّراسة أهمّيّتها من كونها دراسة لا نظنّ أنّها نالت حقّها الكافي من الاهتمام، ويجب الإضاءة عليها بكلّ جوانبها وعناصرها وزواياها، أمّا أبرز أسباب اختيار الدّراسة فيتجلّى في الأمور الآتية:

– تحليل بنود محددة من اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار وتفسير بعض موادّها.

– إبراز الوسائل السّلميّة المعتمدة في تسوية النّزاعات البحريّة.

– توضيح الآليات القضائيّة الممكنة في حال فشل المفاوضات السّلميّة.

– تقديم دراسة مرجعيّة جديدة يستفيد منها الطّلّاب والباحثون المهتمّون بهذه النّوعيّة من الدّراسات.

تسعى هذه الدّراسة إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المحوريّة، من أهمّها:

– إعادة طرح موضوع حيويّ للنقاش العلني العلمي البنّاء.

– إجراء تفصيل منهجي وشامل لكافّة سبل تسوية النّزاعات البحريّة، سواء كانت سلميّة أم قضائيّة.

من هنا، تقوم هذه الدّراسة على إشكاليّة رئيسة مفادها:

– كيف تنشأ النّزاعات البحريّة في ظلّ وجود اتّفاقيّة مفصّلة لقانون البحار تضم مئات المواد القانونية؟

ومن هذه الإشكاليّة، المركزية تتفرّع عدّة تساؤلات فرعيّة، أبرزها:

  • هل تنجح الوسائل السلميّة في حلّ النزاعات البحريّة عندما يكون أحد الأطراف متعمّدًاالتعدّي؟
  • ما الوسيلة القضائيّة الأكثر سرعة وفاعليّة في إصدار القرارات في النزاعات البحريّة؟
  • في حال شعر الطرف المعتدي بتفوّقه أو تفوّق قوّته، هل سيلتزم فعلًابالأحكام القضائيّة الصادرة ضدّه؟

يسعى هذا البحث إلى معالجة هذه الإشكاليّات من خلال محورين رئيسين:

المحور الأول: تعريف النزاعات البحريّة وتحديد خصائصها وأسباب نشوئها.

المحور الثاني: تحليل آليات حلّ النزاعات البحريّة وفقًا لاتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982..

 

المحور الأول

 تعريف النزاعات البحريّة وتحديد خصائصها وأسباب نشوئها

يعدّ النّزاع، بمفهومه الواسع، ذلك الصّراع الّذي ينشأ بسبب اختلاف الآراء أو تضارب المصالح، أو صراع الدّول والثّقافات، وغيرها من المسمّيات الأخرى (حتي، 1985، ص 50)، علمًا أنّ نزاعات الحدود كانت مقتصرة على الحدود البرّيّة، ولم تظهر في الحدود المائيّة إلّا في الآونة الأخيرة، وذلك بعد اكتشاف الثّروات الطّبيعيّة في أعماق البحار، على الرّغم من عدم وجود فرق جوهريّ بين النّزاعات على الحدود البرّيّة، أو المائيّة (أبو الخير، 2010، ص 97).

بداية، يمكن القول إنّ وجود نزاعات في إطار المجتمع الدّوليّ المعاصر، لا يُعدّ أمرًا غريبًا أو استثنائيًا، بل يعدّ مظهرًا طبيعيًا من مظاهر الوجود في مجتمع دولي منظّم (أبو الوفا، 1988-1989، ص 115)، انطلاقًا من ذلك، تشير كلمة نزاع إلى حالة من التنازع والاختلاف بين طرفين أو أكثر، تنشأ نتيجة تعارض في المصالح أو تضارب في الآراء أو تباين في وجهات النّظر بشأن موضوع النزاع (الحوشي، 2009، ص 26).

وعند التطرّق إلى تعريف نزاعات الحدود الدّوليّة، لا بدّ من الإشارة إلى مسألة بالغة الأهميّة، وهي أنّ هذا التّعريف يختلف باختلاف نوع الحدود، سواء أكانت الحدود برّيّة أم بحريّة أم جويّة؛ ذلك أنّ كلّ نوع من هذه الحدود يحدّد النّطاق الجغرافيّ الّذي تمارس فيه الدّولة سيادتها وسلطاتها المختلفة (رزق الله ومحمود، 2018، ص 24).

الفقرة الأولى: شروط النّزاعات البحريّة وأسبابها

يُعرّف “النّزاع الدّوليّ” بأنّه “الخلاف الّذي يقوم بين أشخاص القانون الدّوليّ العامّ، والّذي قد يكون قانونيًّا، أو سياسيًّا، أو اقتصاديًّا، علمًا بأنّ الغالبيّة العظمى من النّزاعات ذات طبيعة قانونيّة” (ملاعب، 2023، ص 408)، ومع ذلك، ليس كلّ نزاع أو حادث متعلّق بالحدود بين دولتين جارتين يعدّ نزاعًا حدوديًا. وهذا ما أكّدته المحكمة الدّائمة للعدل، إذ بيّنت أنّ النزاع هو خلاف يتعلّق بالقانون أو بوقائع معيّنة، أو تنازع يتعلّق بوجهات نظر قانونيّة أو بمصالح بين شخصين، وذلك في معرض تصديقها للحكم الصّادر في قضيّة مافروماتيس بين اليونان وبريطانيا (أبو الخير، 2010، ص 95)، يُشار أيضًا إلى أنّه يتمّ التّمييز، في بعض الأحيان، بين النّزاعات القانونيّة والسّياسيّة، أو بين النّزاعات القابلة للتّقاضي وغير القابلة. (Shaw, 2008, p1012)

فالنّزاع هو خلاف ينشأ بشأن مسألة تتعلّق بالقانون، أو بوقائع معيّنة، أو هو تنازع يتعلّق بوجهات نظر قانونيّة، أو بمصالح بين طرفين، ومن أجل إثبات وجود ما، ينبغي إثبات أنّ مطلب أحد الأطراف يعارضه طرف آخر، كما أنّ وجود نزاع دوليّ من عدمه أمر يحدّد موضوعيًّا (دسوقي، 2011-2012، ص 87).

ولقد حاول الفقه تعريف النزاعات الدّوليّة بأنّها خلاف على نقطة قانونيّة، أو واقعيّة، أو تعارض أو تناقض ادّعاءات فيما بين دولتين (غانم، 1973، ص 511 )، كما عرّفت محكمة العدل الدّوليّة النّزاع الدّوليّ بأنّه خلاف في نقطة قانونيّة، أو واقعيّة، أو تناقض وتعارض للطّروحات القانونيّة، أو المنافع بين الدّولتين (حماد، 1988، ص 17).

بناء عليه، لا بدّ من توافر شروط محدّدة ليعدّ النّزاع نزاعًا دوليًّا (أوّلًا)، ولا بدّ من معرفة أسباب النّزاع (ثانيًا).

أوّلًا: شروط المنازعات البحريّة

إنّ الشّروط الّتي يجب توافرها لوجود نزاعٍ دوليّ مقتبسة من الاجتهاد القضائيّ، لا سيما قرارات محكمة العدل الدّوليّة. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على الدّور الهامّ للقضاء الدّوليّ في وضع شروط تميّز النّزاع الدّوليّ عن غيره من النّزاعات، ومن هذه الشروط:

  • وجود ادّعاءات متناقضة: يُشترط لاعتبار اختلاف وجهات النظر بين أشخاص القانون الدوليّ نزاعًا دوليًّا، أن يقابل ادّعاء أحد الأطراف احتجاج أو رفض صريح من الطرف الآخر. فلا يكفي مجرّد الاختلاف، بل يجب أن يُترجم ذلك إلى سلوك احتجاجيّ واضح من جانب أحد الأطراف إزاء موقف الطرف الآخر(الحوشي، 2009، ص 53).
  • أن يتعلّق الادّعاء بموضوع معيّن وبمصلحة يحميها القانون:

يجب أن تتعلّق الادّعاءات بموضوع معيّن ومحدّد مثلًا، بواقعة مادّيّة كالتّلوّث، أو قطع كابلات في البحر، أو بموضوع قانونيّ، مثل تفسير اتّفاقيّة أو انتهاك حقوق تتعلّق بترسيم الحدود البحريّة، وقد نصّت المادّة 1/40 من النّظام الأساسيّ لمحكمة العدل الدّوليّة على تحديد النّزاع بالقول “تُرفع القضايا إلى المحكمة بحسب الأحوال، إمّا بإعلان الاتّفاق الخاصّ، وإمّا بطلب كتابيّ يُرسل إلى المسجِّل، وفي الحالتين يجب تعيين موضوع النّزاع وبيان المتنازعين”.

كما أنّ تحديد الموضوع منصوص عليه في المادّتين 1/24، و28 من النّظام الأساسيّ للمحكمة الدّوليّة لقانون البحار، وهو وارد أيضًا في المادّة 2/20 من نظام إجراءات التّحكيم الدّائمة لسنة 2012.

وتتجلّى أهمّيّة تحديد موضوع النّزاع في تحديد القانون الواجب التّطبيق، وهو أمر ليس سهلًا نظرًا إلى اتّساع القانون الدّوليّ (جابر، 2021، ص 264 )، كما أنّ تحديد النّزاع غير كافٍ لوحده لاعتبار النّزاع الدّوليّ، بل لا بدّ من أن يرتبط النّزاع بمصلحة يحميها القانون، وأنّ أيّ ادّعاء لا يحميه القانون لا يصلح أن يكون موضع نزاع.

3- ادّعاءات قائمة لحين الفصل فيها: يُشترط في النّزاع الدّوليّ أن يكون قائمًا لحين الفصل فيه، فإن انقضى قبل الفصل فيه، أو زالت أسبابه، زالت دواعي النّظر فيه. وهذا ما أكّدته محكمة العدل الدّوليّة في قضيّ التّجارب الذّرّيّة بين أستراليا وفرنسا، إذ عدّت أنّ تصريحات فرنسا المتعلّقة بالتّجارب الذّرّيّة قد توقّفت، فزال بالتّالي النّزاع (فتاوى محكمة العدل الدولية، 1992، وموقع إلكتروني)؛ لذلك تمّ تعريفه بأنّه “الخلاف القضائيّ الّذي يقبل الخضوع للتّحكيم والتّسوية القضائيّة” (الجنابي، 2022، ص 42).

ثانيًا: أسباب النّزاعات الدّوليّة

ارتبطت مصالح بعض الدّول، منذ القدم، بالبحار، ومع تطوّر التّكنولوجيا، كُشِف عن ثروات بحريّة متنوعة، ممّا فاقم النّزاعات البحريّة ذات الخلفيّات المختلفة، ومن هذه الأسباب:

  • أسباب اقتصاديّة:ظهرت أهمّيّة البحار من النّاحية الاقتصاديّة، لما تحويه من ثروات جعلتها مطمعًا للدّول، ومصدرًا رئيسًا للنّزاعات البحريّة (أبو زيد، 2015، ص 132 )، ويتّضح أنّ جميع نزاعات الحدود البحرية تحمل في طيّاتها بعدًا اقتصاديًّا، ذلك أنّ الموارد الطّبيعيّة، سواء الحيّة منها أو المعدنيّة، تعدّ الهدف الرّئيس لادّعاءات الدّول في مناطق قاع البحر وما تحته.

وغالبًا ما تنشأ المنازعات الحدوديّة بسبب الأهمّيّة الاقتصاديّة بين الدّول المتجاورة، خصوصًا إذا كانت إحدى الدّول غنيّة في مواردها الاقتصاديّة، مثل احتياطات البترول والثّروات المعدنيّة. وتزداد المشكلة إذا كانت الدّولة المجاورة فقيرة في مواردها، فتسعى الأخيرة إلى تنفيذ مطامعها وإحداث بعض المشاكل الحدوديّة، خصوصًا إذا كانت الثّروة قريبة من مناطق الحدود (رزق الله ومحمود، 2018، ص 27).

ويُظهر الواقع العمليّ العديد من الأمثلة على هذا النوع من النّزاعات؛ ومن ذلك النّزاع بين قطر والبحرين، عقب الاستكشافات البتروليّة (عدوان، 2018-2019، ص 42)، حين كانت قطر تعاني من شحّ في آبارها، ويعدّ هذا النّزاع أوّل نزاع نفطي في منطقة الخليج العربيّ.

  • أسباب سياسيّة:

تعدّ الأسباب السّياسيّة من بين الأسباب الرّئيسة الّتي تؤدّي إلى نشوب نزاعات، لا سيما في عمليّة تعيين الحدود البحريّة؛ لذلك، تعدّ مسألة تعيين الحدود من المسائل الشّائكة لأنّها تتعلّق بسيادة الدّولة. وتتأثّر عمليّة تعيين الحدود البحريّة، في كثير من الأحيان، بالإرادة السّياسيّة للدّول الأطراف؛ فإذا توفرت النيّة الصادقة للتّوصّل إلى نتيجة إيجابيّة، فثمة فرصة حقيقيّة في التّوصّل إلى نتيجة، مهما كانت التّعقيدات موجودة، وبقدر ما تكون العلاقات ودّيّة بين الدّول، يكون هناك إمكانيّة للوصول إلى حلّ عادل (فواز، 2018-2019، ص 44).

أمّا إذا كانت العلاقات بين الدّول يسودها عدم الثّقة والعداء، فلا شكّ في أنّ النّتيجة ستكون أكثر عرضة للوصول إلى طريق مسدودة، الأمر الّذي يؤدّي إلى حدوث نزاعات (رضوان، 2013، ص 280).

  • الأسباب التّقنيّة:من المعلوم أنّ عمليّة ترسيم الحدود الدّوليّة بصفة عامّة، والحدود البحريّة بصفة خاصّة، تُعدّ عمليّة قانونيّة في موضوعها، وفنّيّة من حيث إجراءات التّنفيذ، ولإقامة حدّ فاصل بين دولتين، لا بدّ من تعيين هذا الحدّ بشكل دقيق في ضوء الإلمام التّامّ بالطّبيعة الجغرافيّة، وذلك من خلال المفاوضات الّتي يقيمها أطراف النّزاع، ومن ثمّ الاتّفاق على وضع الخطّ الحدوديّ، لتبدأ بعدها عمليّة التّرسيم.

وتعدّ عمليّة التّرسيم عمليّة فنّيّة تقوم بها لجان فنّيّة مختصّة، وتقوم بالأعمال المخوّلة إليها، ولا بدّ من التّنبيه إلى أنّ تعيين الحدود البحريّة له دائمًا مظهر دوليّ لأنّه يهمّ دولًا غير الدّولة السّاحليّة، وبالتّالي، فلا يمكن أن يتوقّف التّعيين على الإرادة المنفردة لتلك الدّولة (أبو الوفا، 1988-1989، ص 142).

الفقرة الثّانية: تمييز مصطلح النّزاع الدّوليّ عن باقي المصطلحات

نصّت المادّة 36 من ميثاق الأمم المتّحدة على عبارة “الموقف الشّبيه بالنّزاع”، ممّا أثار جدلًا حول المقصود من هذا الوصف، فقد يؤدّي اختلاف وجهات النّظر بين أشخاص القانون الدّوليّ إلى تباين في المواقف؛ فعلى سبيل المثال، قد يُصرّح  وزير خارجيّة دولة ما بأنّ للدّولة سيادة على جزيرة معيّنة، أو قد يتجلّى الاختلاف في سلوك معيّن، فمثلًا أن تقدم دولة على احتلال هذه الجزيرة مع معارضة دولة أخرى تدّعي سيادتها عليها. في مثل هذه الحالات، يختلف توصيف النّزاع مع المصطلحات الشّبيهة به، مثل “الصّراع” أو “التّوتّر”، أو “الأزمة”، أو “الحرب”؛ لذلك يجب علينا التّمييز بين هذه المصطلحات، كالتّمييز بين “النّزاع” و”الصّراع” و”التّوتّر” و”الأزمات” (أوّلًا)، والتّمييز بين “النّزاع” و”الحرب” و”الموقف” (ثانيًا).

أوّلًا: التّمييز بين النّزاع والصّراع والتّوتّر والأزمات

بداية، لا بدّ من التمييز بين مصطلح “النّزاع” وباقي المصطلحات الشّبيهة به، علمًا أنّ العديد من التّعريفات تناولت مفهوم النّزاع، لكن ما يهمّنا هنا هو مفهوم النّزاع الدّوليّ الّذي تمّ تعريفه بالادّعاءات المتناقضة بين شخصين قانونيين دوليين أو أكثر، كما أنّ أيّ نزاع دوليّ يتطلّب – كما نبّه إليه الاجتهاد الدّوليّ – إثباتًا موضوعيًّا، إذ إنّ أيّ خلاف يُحدّد نسبة إلى خصائصه الذّاتيّة (روسو، 1982، ص 283).

ويعرّف لويس كوسر الصّراع بأنّه “تنافس على القيم، والقوّة، والموارد، يهدف فيه كل طرف إلى تحييد خصومهم، أو تصفيتهم، أو الإضرار بهم، وقد يكون مادّيًّا (استخدام الوسائل المادّيّة)، وقد يكون معنويًّا (كالصّراع الأيديولوجيّ أو الحضاريّ)، كما أنّه قد يكون عنيفًا، وقد لا يتّسم بالعنف أحيانًا، وقد يكون مستمرًّا وقد يكون متقطّعًا. لكنّه بشكل عامّ يقترن بطول فترته الزّمنيّة، كما يقترن بتعدّد أبعاده مقارنة بالنّزاع الّذي يشمل في العادة جانبًا أو جوانب محدّدة، عسكريّة واقتصاديّة وسياسيّة، ومع ذلك فإنّ الصّراع غالبًا ما يبقى بعيدًا عن اللجوء إلى الوسيلة العسكريّة (حشاني، 2007-2008، ص 19).

والصّراع هو تنازع الإرادات الوطنيّة النّاتج من اختلاف الدّول في تصوّراتها وأهدافها وتطلّعاتها، وفي مواردها وإمكانيّتها، ممّا يؤدّي إلى اتّخاذ قرارات تختلف أكثر ممّا تتّفق (حماد، 1988، ص 27).

ويشير التّوتّر إلى حالة عداء وتخوّف وشكوك وتصوّر بتباين المصالح، أو ربّما إلى الرّغبة في السّيطرة أو تحقيق الانتقام، غير أنّه يبقى في هذا الإطار من دون أن يتعددّاه ليشمل تعارضًا فعليًّا وصريحًا، وجهودًا متبادلة من الأطراف لتأثير بعضها على الآخرين. والتّوتّر حالة سابقة على النّزاع؛ فكثيرًا ما رافقت انفجار النّزاع، وأسباب التّوتّر في الغالب مرتبطة بشكل وثيق بأسباب النّزاع. فإنْ تحوّلت التّوتّرات إلى شكل خطير، فقد تكون بدورها عاملًا مساعدًا أو رئيسًا على حدوث النّزاع، ما دامت تؤثّر في عمليّة صنع القرار (حشاني، 2007-2008، ص 20).

أمّا الأزمة فتعدّ حالة وسط بين التّوتّر والصّراع، أو هي المرحلة الأولى للصّراع. وتعدّ موقفًا مفاجئًا تتّجه في العلاقات بين الدّول نحو المواجهة التّصعيديّة نتيجة لتعارض الأهداف والمصالح. وتختلف الأزمة عن النّزاع في أنّها تحمل عنصر المفاجأة، في حين ينعدم عنصر المفاجأة في النّزاع، كما أنّها تتطلّب ردّ فعل سريع من الطّرف الآخر، ممّا يتطلّب حلًّا سريعًا، وإلّا تحوّلت إلى صراع. وتعدّ “الأزمة فترة ضروريّة بين السّلم والحرب، ولكن ليس من الضّروريّ أن تؤدّي إلى حرب”. (غريقيش وأوكلاهان، 2008، ص 47).

ويقول آلان فيرغسون إنّ الأزمة تبدأ عندما تقوم دولة ما بفعل تكون تكلفته كبيرة لدولة أخرى، وتتميّز الأزمة بحسب هيرمان بثلاث خصائص رئيسة: أوّلها المفاجأة، إذ تحمل طابع المفاجأة لصانع القرار أو حتّى للملاحظ البسيط، ثانيها التّهديد العالي للأهداف، أي إنّ الفعل تكون تكلفته كبيرة بالنّسبة إلى الطّرف الآخر، وثالثها ضيق الوقت المتاح للتّصرّف، أي إنّ صاحب القرار لديه اهتمامات أخرى، وليس له الوقت والمعلومات الكافية للتّصرّف، إلى جانب هذه الصّفات تتميّز الأزمة بكثرة الأحداث فيها وقصر مدّتها، وإن لم تتمّ إدارتها بشكل مقبول فقد تؤدّي إلى حرب (حشاني، 2007-2008، ص 21).

 

حقوق النشر © محفوظة لمجلة الضاد الدولية – العدد السابع، حزيران 2025.
يُمنع إعادة نشر هذا البحث أو نسخه أو استخدامه لأغراض تجارية أو إعادة توزيعه كليًا أو جزئيًا بأي وسيلة، من دون إذنٍ رسمي وخطي من إدارة مجلة الضاد الدولية حصراً.

تنويه مهم:
يُسمح بالاستشهاد العلمي من هذا البحث، سواء بالنقل الحرفي القصير ضمن علامات تنصيص، أو بإعادة الصياغة،
وذلك ضمن الأطر الأكاديمية المعترف بها، وبشرط الالتزام الكامل بقواعد التوثيق العلمي وذكر المرجع بشكل صحيح
(اسم المؤلف، عنوان البحث، المجلة، العدد، تاريخ النشر، الصفحات).

إن الاستشهاد العلمي لا يُعدّ انتهاكًا للحقوق الفكرية، بل هو حق مشروع ضمن أخلاقيات البحث العلمي.

لأي استفسار أو طلب إذن رسمي لإعادة استخدام المحتوى، يُرجى التواصل مع إدارة المجلة عبر البريد الإلكتروني:
📩 Dhadinternationaljournal@gmail.com

الموقع الإلكتروني للمجلة: dhadinternationaljournal-hss.com

Loading

Scroll to Top